أسس مفهوم المحاكاة عند الفلاسفة اليونان على مبدأ أن كل ما في الواقع ما هو إلا تقليد لما هو موجود في عالم المثل، فجاءت المحاكاة عند أفلاطون ذي النزعة الصوفية الغائية على أنها جوهر الفن، وبالابتعاد عن المحاكاة زاد بعد الحقيقة عن الأصل، بينما جاءت النزعة العلميةٍ التجريبية لدي أرسطو لترجع الفنون كافة إلى أصل فلسفي واحد هو محاكاة الحياة الطبيعية. لذا انبثقت في الفن اتجاهات عدة تفرعت من الواقعية، مثل الواقعية الإيهامية والتي مثلت نزعة أسلوبية فنية ظهرت في هولندا في القرن السابع عشر وانتشرت في أوروبا حتى القرن التاسع عشر تحت مسمى «تقنية الترومبلوي» بالفرنسية «Trompe-l`oeil»، والتي تعني حرفيا «خداع البصر»، وهي تقنية للرسم الفني استخدمت في اليونان القديمة وفي روما، حيث تتلخص في رسم رسوم وخلفيات على حائط وجدران لتبدو وكأنها حقيقية مجسمه ثلاثية الأبعاد، تشحذ الجمهور المتلقي نحو تلمس العناصر وتحسس التفصيليات للتأكد من إيهاميتها أو واقعيتها، بما يصعب معها على العين البشرية تمييزها عن الصورة الفوتوغرافية في عصر المعلوماتية والتطور التكنولوجي والاتقان الرقمي بما ينافس الخيال الملهم الذي يمثله الفنان الموهوب. الواقعية في الفنون البصرية خيال ملهم يتحدى الإتقان الرقمي ليؤسس بذلك توجهها المفاهيمي على الخداع الإيهامي بالواقع غير الموجود، حيث تتقمص تلك النزعة الأسلوبية الشيء الحقيقي إلى أقصى حد، كأن يرسم الفنان أدوات موسيقية معلقة على الحائط بواقعية شديدة الإقناع، أو رسم نافذة على جدران للإيهام بأنها نافذة حقيقية يمكن فتحها والنظر من خلالها إلى الخارج أو على عوالم ذات أنساق خاصة، معتمداً على الإخلاص والدقة المهارية المفرطة في الواقعية الإيهامية لسطح الصورة، واستبدال العناصر الحية بالعناصر الجامدة في موضوعات الطبيعة الصامتة، ورسوم الجدران والنوافذ والمرايا الوهمية، مما دفع النقاد إلى تسمية فناني هذا المذهب «سحرة الماضي». وترتبط تلك النزعة الأسلوبية بإحدى الروايات القديمة التي تسرد لتنافس عدداً من الرسامين في اليونان القديمة عبر مسابقة للرسم، بغرض إظهار جدارتهما المكينة والقدرة نحو إبداع عمل فني يحاكي الطبيعة وعناصرها وإظهارها وكأنها بيئة طبيعية حقيقية. لتسمح بذلك التفصيليات والتدوينات البصرية والواقعية المفرطة للعناصر المرسومة من اجتذاب عدد من الطيور نحو «عنقود عنب» مرسوم لتناول حباته، في تدليل على قدرة وتمكن الفنان «زيكوسيس»»Zeuxis» نحو محاكاة العناصر وإظهار التفصيليات توازي الحقيقة الطبيعية لتصبح الواقعية في الفنون البصرية خيالاً ملهماً يتحدى الإتقان الرقمي. وعبر ذلك الممر الفني ذو التوجهات المفاهيمية ومن خلال واقعية تتسم بدقه أكاديمية فائقة، قدم بعض الفنانين عدداً من المفردات التي تقترب من التصاوير والمجسمات الحقيقية البارزة على خلفياتها، وكأنها حقيقة مجسمة واقعية تقترب بدرجات عالية من عناصر الطبيعة الملموسة، مثل: العملات المعدنية، والآلات الموسيقية والجنازير، والطيور المحنطة المعلقة على الحوائط، والشخوص، والكيانات المعمارية، والتي تستثير بدورها دافع وعقلية ووجدانية المشاهد لمحاولة ملامستها وتحسس تضاريسها وتكشف تفصيلاتها والتعامل معها وتناولها باليد ثم إعادتها إلى المسطح التصويري. وعالمياً اختص «بوجوسلافسكي» «Boguslawski» برسوم الجدران المعمارية العملاقة ذات التفصيلات الدقيقة البارزة والغائرة التي تفتح للمشاهد عمقاً فراغياً، وتساعد على سهولة الحركة البصرية داخل تلك البنائيات الصلبة القوية لإحداث القناعة الواقعية والصدق في الرؤية، وتدشين المعادل الموازي. بينما استعرض»رافال أولبانسكي»»Rafal Olbinski» عدداً من النوافذ المتناوعة التي تحدد مناطق مخصوصة، بعضها مغلق حتى يحرك المشاهد لمحاولة الاقتراب منه وفتحه لترجمة وفك شفرة ذلك الغامض الذي يستقر خلفها، والبعض الآخر تم فتحه كلية ليفصح عن تلك الفراغات الكونية الرحيبة وموسيقاها الهامسة النابضة، وفي بعض الأعمال الفنية الأخرى تم مواربة هذه النوافذ حتى لا تبوح بكل ما تنطوي عليه عوالمها الأثيرية، وتجعل ذلك المشاهد الواقف أمامها في حركة مستمرة حول ذلك المسطح التصميمي متخذاً أوضاعاً عديدة وزوايا رؤية مختلفة يميناً ويساراً، أملاً في المشاهدة والتلصص والتعرف على المزيد من تلك العوالم الغاضة الحنينية الأسطورية. ليعزز بذلك «أولبانسكي» نفسه كرسام ومصور تشكيلي ومصمم بارز قدير، عبر أطروحات فنية وأسلوبية أطلق عليها «السيريالية الشعرية» والتي تتوازى مع التفكير السريالي الذي طرحه البلجيكي الشهير «رينيه ماجريت» Rene Magritte (19678-1898)، وطرحه الفني الذي يشير إلى الحياة اللاواعية، وأعماله ذات تحدٍ لتصورات المراقبين حول مفهوم الواقع وإجبار المشاهد ليصبح شديد الحساسية تجاه ما يحيط به، مما يفسر الأفكار والأشكال المجازية والاستعارات التي حولت تخيلات الفنان إلى حقائق حداثية، جعلت من الأساطير ومن الغوص في أعماق الإنسانية مجالاً تستقى منه صيغاً للتعبير عن الحقائق الغامضة، ليمثل الفن لدى «رينيه ماجريت» سياقاً ونسقاً متأثراً بالمحيطات التي نشأ فيها ومتطبعاً بنتائجها الفكرية، لذا فهو ركيزة ذات فكر مرئي تشرب جمالية الفن وتقلل من صلابة النصوص. الواقعية الإيهامية في المشهد البصري السعودي وفي المشهد البصري السعودي انبثقت مواهب شابة واعدة لديها الوعي التقني والقدرات العرفية ونواميس أحكام العمل الفني وتجسيد العناصر وفق التقاليد المتعارف عليها منذ عصر النهضة، وتطبيقات الفاتح والداكن والظل والنور، وتعاليم الأبيض والأسود، ورهافة الحس ورومانسية التشخيص وهيبة العناصر وأسطورية المشهد العام لتكويناتهم. دينامية التعبير وأسطورية المنظر لدى «علي عبيد» داخل فضاءات أسطورية حالمة تعزز فعل التعبير النابض سطرت المنجزات البصرية للفنان «علي عبيد» أعمال برؤية فنية متفردة، ونبضات تصورية يحولها مرسام وفرشاة الفنان الخاصة إلى عالم ساحر خلاب إيهامي يعج بالواقعية المفرطة التي تجذب انتباه الجمهور المتلقي، وتستحوذ على حواسه نحو التحليق داخل مستويات من التعبير والأحاسيس، ثم الواقعية التي تغلف تلك الجمل والسرد البصري بالأبيض والأسود الذي يدعم الفكرة ويعلي المشاعر داخل العمل الفني ويكسبه الغموض والرومانسية الحالمة التي تستهوي عقل وقلب المتلقي. وجاءت أطروحات «علي عبيد» شاخصة مفعمة تعبر عن رؤية فنية وبصرية خاصة لها شخصيتها وخصوصيتها الدالة، وفق تجليات ثقافته وقناعاته، دونما افتعال، أو قلة دراية لصالح شخصية وسمة متمايزة، تلمس من خلالها الفنان مدركاً شكلياً بصرياً تعبيرياً صادقاً، تبلورت معه تجربة الفنان المكينة والبصمة الواضحة التي يستميل إليها المتلقي نحو سرديات الفنان عبر خطابات أثراها التدفق الإبداعي والخيال الأسطوري أعمالاً ذات نسق متحرر من القيود التي تفصل بين الزمانية الماضية والحاضرة، لتصطبغ أعماله بنقل المتلقي المشاهد، لأجواء خلابة تستثير حالته النفسية، وتدعوه إلى التحليق داخل عوالم ملغمة بالأحلام والرموز التي تتحرك منفردة وجماعية لتهمس إلى ذاتها وتصغي لأصوات عوالمها عبر الترجمة الدقيقة الواقعية المفرطة للتفصيليات في كل متكامل متسق الحيوية، والدرجات اللونية المعززة بالفعل الحركي، وشحذ طاقات التعبير الذي يعكس رومانسية عوالم حالمة، تحفز مشاعر الجمهور. رومانسية واقع الشخوص الحالمة لدى «صباح الظفيري» عبر البحث في ماهية الشكل الجمالي للعناصر، والنحو عن البحث السطحي للظاهر الشكلي، الذي يفتقد إلى التحليل والتفهم، الذي يستوجب التفهم الواعي، والغوص في الداخل الجواني للأشكال، وتكشيف أسرارها للمتلقي عبر المساحة التصويرية، جاءت أعمال الفنان «صباح الظفيري» حالمة شاعرية تستدعي التجاوب التفاعلي للمشاهد عبر واقعية تدعمها طرز أدائية، والطرق الأسلوبية والتقنية التي عكف الفنان على دراساتها والمثابرة والصدق والتفاني في تجربته وتفصيلياتها لنسج المستويات على سطح العمل الفني، وتشكيل مستويات بالأبيض والأسود تتصدرها الواقعية التي تغلفها مستويات متتالية تشحذها غموض الأبيض والأسود الداعم لإيماءات وملامح شخوص أعماله الفنية، ومستويات من العاطفة والرومانسية، ثم مستويات من أسطورية الأجواء المغلفة لأجواء العمل. ووظف الفنان الطاقات الانفعالية الكامنة للخطوط المتنوعة، وتعزيز خصائصها الأساسية للخط والتي تتمثل في تحديد الحركة والاتجاه، وتعزيز الحلول كالاستعانة بخطوط لينة للتعبير عن الاستدارة والتجسيم والحركة والعمق فجاءت مشحونة بعواطفه وانفعالاته لها ما يكفي من الدقة لتفجير شعور معين لتصطبغ أعمال «صباح الظفيري» في هذه النوعية البهيجة من الأعمال بمجموعات لونية متوافقة تحتفظ بهيبة الشخصية وهويتها من خلال تعبيرات وانفعالات تؤثر في الجمهور وجدانياً مع الاحتفاظ وتعضيد جانب الجاذبية التي تعمق الشعور بالتعاطف والتفاعل والقرابة تجاه شخوص العمل. * الأستاذ بكلية التصاميم والفنون المساعد - جامعة أم القرى من أعمال صباح الظفيري رافال أولبانسكي، والواقعية المفرطة