قسم الباقلاني -محمد بن الطيب (ت 403ه)- في كتابه (إعجاز القرآن) البلاغة إلى ثلاث طبقات، وجعل للبلاغة سلّماً يشبه السلالم الحجاجيّة، أعلاه بلاغة القرآن الكريم؛ مبرراً ذلك بقوله: «الكلمات السامية، والحكم البالغة، والمعاني الشريفة، تعلم ورودها عن الإلهية ودلالتها على الربوبيّة وتتحقق أن الخطب المنقولة عنهم، والأخبار المأثورة في كلماتهم الفصيحة من الكلام الذي تَعلّق بهم الهمم البشرية، وما تحوم عليه الأفكار الآدمية، وتُعرف مباينتها لهذا الضرب من القول». أمّا فيما يتعلّق بما ورد عن العرب من مأثور فقد ركز اهتمامه على الشعر فاتخذه أنموذجاً، ليبني نظريته في التفاوت بين القول البشري والقول الإلهي، ومن ثمّ خلص إلى أنَّ البيان القرآني بما يعنيه من جلاء ووضوح ومن تفرّد في الإبلاغ، لا يداينه وضوح آخر أو بناء مّا. ويقول في ذلك: «فإن أراد أن نقرب عليه أمراً، ونفسح له طريقاً ونفتح له باباً ليعرف به إعجاز القرآن فإنَّ نضع بين يديه الأمثلة، ونعرض عليه الأساليب، ونصور له كلَّ قبيل من النظم والنثر، ونخبره من كل فنّ من القول شيئاً يتأمله حق التأمل... ويقع له الفرق بين الكلام الصادر عن الربوبيّة، الطالع عن الإلهيّة... نعمد إلى شيء من الشّعر المجمع عليه فنبيّن وجه النقص فيه وندلّ على انحطاط رتبته ووقوع أبواب الخلل فيه؛ ليعرف حدود البلاغة، وواقع البيان، والبراعة، ووجه التقدم في الفصاحة. ألا ترى أنَّ الشاعر إذا جاء إلى الزهد قصر والأديب إذا تكلّم في باب الأحكام، وذكر الحلال والحرام، لم يكن كلامه على حسب كلامه في غيره. ونظم القرآن لا يتفاوت في شيء ولا يختل في حال». وحتى يزيد الأمر وضوحاً، والغاية جلاء وبياناً يعمد إلى تحليل قصيدتين الأولى لامرئ القيس معلقته التي مطلعها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللواء بين الدخول فحومل والثانية قصيدة البحتري التي مطلعها: أهلا بذلكم الخيال المقبل فعلى الذي نهواه أولم يفعل يرجع مردّ اختيار الباقلاني لهذين الشاعرين إلى إدراكهما مرتبة الفحولة في عصريهما، فقد فضلهما كثير من الكتاب والنقّاد على غيرهما. أمّا صاحب إعجاز القرآن فيقف على عوار هاتين القصيدتين، فيبين عن مواضع الخلل في نظمهما ليبرهن على أن نظم القرآن جنس متميز وأسلوب متفرد، منزه عن المثيل أو الشبيه أو النظير. ولم يكتفِ بتحليل القصيدتين والإبانة عمّا فيهما من عيوب أو خلل بل حلل في مقابلهما آيات من القرآن الكريم موضّحاً ما فيها من بلاغة لا تتفاوت ولا تهبط، وذلك في سبيل تفضيله الأسلوب القرآني على الأسلوب البشري. وعلى وجاهة ما اهتدى إليه الباقلاني من آراء جليلة يقتضينا الإنصاف أن نقول إنّه قد ارتكب ألواناً من التعسف والتكلّف وأجهد نفسه في تمحّل العيوب، ولكنه مع كلّ ذلك كان يصدر عن ذوق نقدي بارع. وقد خلص من خلال هذه الموازنة إلى أن بلاغة القرآن ترجع إلى أساليبه البلاغية العالية المعجزة، وإلى مفرداته بمدلولاتها وإيحاءاتها وحروفه المقطّعة. وقد تجتمع أجناس القول الأدبيّ في مقول واحد ويكون بعضها لبعضها ظهيراً، لكنّه يمتنع عليها قاطبة أن تجاريه فصاحة وبلاغة. وكيف تسلم من العجز والحال أنّ كلّ مكوّنات الثقافة العربيّة الإسلاميّة ما تزال إلى يوم الناس هذا تطوف بالقول المعجز تفسيراً وشرحاً وبياناً.