في خضم القراءات التحليلية لأطروحات الأيقونيين المبدعين، هناك حتمية إلزامية نحو تقديم أحد أبرز القامات الفنية الرائدة ذات التأثير الراديكالي الفاعل في الاتجاه البصري، والمؤسسين الطليعيين لمشهديته، عبر أفكار بصرية تضرب جذورها بعمق في تربه المشهد البصري السعودي وتصدر قيم مضافه. وحين نستحضر أسماء المبدعين الأوائل تنبثق عظمة وهمة وحضور ذلك الوطن، وتتابع مبدعيه، ومدى احتفائه دوما برموزه ومشاعله الفكرية والفنية، الذين دشنوا أولى لبنات الحركة الفية السعودية، وأبرز هؤلاء الأيقونيين «عبدالحليم رضوي» فنان الرعيل الأول الذي حدد ملامح وتفصيليات المشهد الحقيقي لمعالم الفن البصري رائداً لمدرسة «الأصالة» في الطرح التي صدحت بأبجدية تنطلق جذورها من بيئته صوب العالمية لصياغة حالة يتحرر فيها الشكل من دلالاته القديمة والسياقات العرفية والحقائق الحسية، مع الاحتفاظ بهيبة الشخصية وهويتها. فهو التبسيطي الاختزالي الذي يحلق عبر التدقيق والفهرسة لعناصر الطبيعة والتراث، ليتحول من مجرد تدوين المفردات المرئية لصالح واقع حداثي أفرزته مخيلته الإبداعية، حلق به لتوغله في داخل الحقائق والمكنونات وما تنطوي عليها من قيم، والتمسك بالهوية الوطنية في تبشير بالخروج على نواميس الأكاديمية، والنحو عن الأسلوب التقريري الملتزم. تأصيل الأفكار والهوية الاستحضارية للبيئة ولد الفنان بمدينة مكةالمكرمة عام 1939-2006م، وتلقى دراساته الفنية في أكاديمية الفنون الجميلة بروما 1964م، وهناك أقام أول معارضه الشخصية في العام التالي من التحاقه، وحصل على درجة الدكتوراة من الأكاديمية العليا للفنون الجميلة بمدريد عام 1979، وعمل مدرساً للتربية الفنية بجدة، وعمل مديراً لمركز الفنون الجميلة في جدة، ومديراً لجمعية الثقافة والفنون بجدة، وحصل على وسام الفنون والآداب من إيطاليا عام 1996. لتثقل دراساته الأكاديمية قدراته الفنية واتساق التقنيات مع المدلول والترميز ودعم الخصوصية الذاتية، لينطلق بعدها أكثر من مائة معرض داخل المملكة وفي بلدان أوروبية، مثل: اليابان وهولندا والبرازيل والولايات المتحدة الأميركية، وتحظى أعماله باقتناء كبرى المتاحف كإرث ثقافي ومنهل فني شاحذ للمهتمين والباحثين، وحالة فنية خالدة تؤشر لقامه مستقرة في الذهنية والوجدان. نشأ «عبدالحليم رضوي» ليصبح فناناً مرهفاً بأحاسيس مفعمة، متفرداً منذ بداياته، يرسم بصدق جم نابع من أعماق القلب، ليسجل بصمة نابضة مضافة تنويرية شاحذة، تولد حوارية عاطفية وقيماً دينامية تدلل على قدرة مكينة في التحكم الأدائي التقني التعبيري الذي يميز ثقافة الفنان وطموحه الفني. فتمايزت أعمال الفنان بتدشين معادل استحضاري روحي يكشف مكنوزات بيئة المملكة، لتتناوع موضوعاته ما بين أطروحات تعلي المشاعر والهوية الدينية وظهور الكعبة والقباب والمآذن ومحيط الحرم المكي، وموضوعات تحتفي ببيئة الصحراء والبيداء والخيول في عنفوان حركاتها، وموضوعات تؤطر الشخوص المفعمة في دلالة على الحيوية والطبيعة المكانية، لتصدير الطاقات التعبيرية والدلالات المفاهيمية مع الاهتمام بالتفصيليات الدالة على القدرة المكينة لعين الفنان وإحساسه بالعناصر وترجمتها للإفصاح السردي عن أفكاره. شغل «عبدالحليم رضوي» الصدارة في تأكيد الهوية المحلية وإضفاء طابع المعاصرة، مما صاغ منعطفاً رئيساً في هيكلية الحركة الفنية، فساهمت الطبيعة الخاصة بالمملكة في تشكيل المزاج الفني الخاص لدى الفنان وألهبت مخيلته بالحلول والتصورات الحداثية التي تنحو عن الاتباعية السردية، لصالح حداثة الفكرة وأصالة الطرح وحضور المعالجات وهيبة المشهد، واستخدام الإشارات الاستعارية والكنايات. وكنتاج لتفاعل الفنان مع محيطه وانعكاس الواقع على مشاعره وطرق صياغة الخطابات البصرية عبر تحليل عميق وفهم واعٍ لماهية استقاء الرموز والأفكار لتدشين أثيرية حالمة، ونسج حقائق روحية، انطلقت أعماله من منحنى تراثي تستلهم الموروث الشعبي كعنوان رئيس لتكشف عن جماليات وقيم ذلك الموروث وطرحه عبر شخصية وهوية سعودية، ليدفع الاستيعاب والتحليل المنهجي والانطلاقة الحداثية من التراث العربي مخيلة الفنان نحو استلهام القيم الجمالية للفن الشعبي، لصياغة مدخلات محركة في تجربته الراديكالية كاتجاه فلسفي يعمق فكرة التجذر بالتراث المحلي. (البصر والبصيرة) ومدارات العاطفة والتعبير: جاءت أعمال «رضوي» لتدلل على شغف مولع بالتركيب المنظم والقدرة الحداثية على ترجمة الملامح التكوينية للعمل، وترجمة قدر من المشاعر بصورة مفعمة ديمومية، وإعلاء «دراما» الرسم والخط، وتصوير الانفعالات على وجوه الشخصيات، والأضواء والظلال المعبرة عن الجوانب العاطفية، والاستعانة بضربات الفرشاة العميقة. ليتم إعطاء السيادة للمشاعر والأحاسيس، والألوان الوضاءة باعتبارها وسائل مهمة تساعد على تكشف جوهر الظواهر والعناصر، وتضفي على الأعمال طبيعة خاصة نستطيع من خلالهما أن نرى شيئاً نبصره بالعين مع آخر ندركه من خلال البصيرة، أي المزاوجة بين (البصر والبصيرة). ففي طابع تصويري غلبت عليه المسحة الشاعرية، ارتكل الفنان «عبدالحليم رضوي» لطرق تحليلية في التراكيب، والرومانسية ذات النغمات العاطفية، لتكشف ببهاء عن جوانب تراجيدية تتسم بالجروتيسكية، وتوظيف الوسائط التعبيرية ذات الكثافة والثقل في تعبيراتها البصرية كنموذج طليعي مضاف. ونحو الإفادة من المساقات والمدارات التقنية والفكرية المعاصرة، مع الحفاظ على الطابع المحلي صاغ الفنان تأثير التوجه الانطباعي الذي سطره الأيقوني «بول سيزان» المؤسس على جرات الفرشاة، وعلاقاته البنائية، ليأخذ عن التكعيبية التخلي عن التجسيم والانعكاسات، وقوة التعبير، والتمرد على حيل الخداع الإيهامي، وعدم نقل الشيئ المرئي، بل الفكرة الكامنة وراءه، وإعلاء أهمية الخط والشكل باعتبارهما ذهنيان، وتحييد الألوان والأضواء باعتبارهما حسيان، والاتجاه للأصول الطبيعية أو المتخيل عن الواقع، الأمر الذي سماه «أبولينير» (الواقعية المعمقة) التي تتحول إلى «روحانية كدفقة صافية». التوجه المفهومي والمقترح الأيديولوجي لدى «رضوي»: عبر مسحة شاعرية حلق «عبدالحليم رضوي» بمفهوم يؤسس على حداثية تفند قراءاتها من الخصوصية الإبداعية للفنان وقدرته على استيعاب سمات النهج الأسلوبي العالمي، والبحث عن الجدة والأصالة التي تعزز حلوله البصرية، فتصدر العنصر البشري بإحساساته العاطفية داخل الذهنية الإبداعية للفنان، شخوص في علاقاتها اليومية ساكنة متحركة تترقب تنطلق منفردة وفي جماعات، اختزالية تزخرف أبدانها دون تفصيليات دالة تترجم الواقع المرئي لصالح ترجمة الانطباع نحو الأشياء واتساقها مع فكرة الفنان لتصبح شخوصه علامة مشحونة بالطاقة التعبيرية والأبعاد الرمزية والتلميحات المفاهيمية، تدلل على الفرادة والخصوصية، عبر قوة التعبير الإنساني وجاذبية تعمق التفاعل والقرابة تجاهه. ونحو عدم انسياقه الاتباعي للعرف الموضوعي المتعارف عليه اتجهت عدد من أطروحاته الفنية نحو توظيف الخطوط العربية لتصدير محتوى تعبيري تدعمه النصوص السردية المؤلفة من مجموعة كتابات زخرفية، ويأتي اللون كعنصر مكمل داخل بعض الكلمات أو الخلفية، والذي يلعب دوراً جمالياً داعماً لجاذبية المضمون الأدبي «الكتابي» وتأطير مفردات العمل مع الميل لتوظيف الشكلانية بمصاحبة النصوص الكتابية. كما وظف الفنان في تجاربه رؤى أسطورية حالمة تعلي جانب الخيال المطلق، للوصول إلى صدى بصري يترسخ في الأذهان ويجذب المتلقي نحو الدخول إلى قلب الساحة الفنية للعمل واقتحامها، فتبنى عدد من أعماله فكرة ترتيب العناصر لتجابه قاعدة «البعد المنظوري» أو «المنظور المعكوس» الذي تبدو فيه الأشياء القريبة صغيرة الحجم والبعيدة كبيرة، وذلك لأغراض رمزية تهدف إلى إبراز أهمية أو جلال شخصية ما، مع حركة العناصر الحرة حول المفردات الأخرى لإضفاء إحساس حركي للتعبير عن حركات عنيفة متواترة داخل المفردات الرئيسة وزيادة تأثيرها البصري. فبدت تكويناته مفعمة تدعمها ديمومة وصيرورة تراتيب المخططات اللونية عبر طلاقة فنية تصدر وضوح الفكرة وأصالة المفهوم التي تجذب بدورها الفعل التجاوبي للمتلقي، عبر ديناميكية حركية تدعمها الأشكال الدائرية والتقويسات المنسابة مع شخوص نابضة في حركات دالة عضوية ورقصات شعبية واحتفالات تحكم هندسية الثبات والركود الصامت، عبر سمه دينامية تؤكدها حلول الكتل والحجوم لتشخيص أحاسيس أسطورية، وحروفيات مع تقسيمات هندسية وتقويسات عضوية دوارة تحتضن شخوص خلال موجات حركية مفعمة، تقود الأشكال نحو جهتها، وتسهل الحركة البصرية لعين المشاهد بالعمل، والتنقل بين العناصر وفق أولويات تشكيلية، وتغلق التكوين على العناصر الرئيسة. لتنقب أعمال الفنان في معطيات الدائرة وبعدها الحركي الديناميكي، فاتصال محيط الدائرة وعدم وجود زوايا تقطع الدورانية، منح الفنان قدر من الحرية في تركيبها بما يولد أنماطاً جمالية وفلسفية، ليمثل الحفاظ على (الدوران) داخل أعماله تجسيد وتعبير عن الحياة بما تحمله من مشاعر متنوعة. ووظفت الزخارف العربية،عبر إيجاز يدعم قوة التعبير، لإسهامات التراث في تعزيز الروابط ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتحقيق الهوية الذاتية للإبداع المعاصر، فالفن نشاط إنساني ينبثق من المجتمع كجزء منه ومعبر عنه في علاقه ترابطية مع النظم والعادات والتقاليد والعقائدية، وهو ما أكد عليه (دوركايمDur heim) أن الفن ظاهرة اجتماعية ونتاج نسبي خاضع لظروف الزمان والمكان. وحملت عدة جداريات للفنان طيور أسطورية ذات تلخيص تبسيطي تحلق في مواضيع بؤرية محددة، ومسارات منسابة قوسية تشحذ عناصر معمارية وشخوص وزخرف وتصدح بنغمات وتفصيليات وتنوع في كل متسق الأجزاء يعلي الهوية، ويعظم الذاكرة الاستحضارية للفنان. * الأستاذ بقسم الفنون البصرية المساعد - جامعة أم القرى من أعمال الفنان عبدالحليم رضوي