بين يديَّ كتاب جميل جدًا، ينحى بنا لذاكرة الكتابات الواقعية، إنه كتاب «فوضاي» للكاتب علي القاسمي، والصادر عن دار بيسان بطبعته الأولى 2013م. القارئ لهذا الكتاب سيتوقف كثيرًا أمام اللغة التعبيرية الذاتية الواصفة لمشاعر الواقع ومدارها اليومي؛ فقد بدأت فوضى الكاتب من حيث انتهت فوضى «سيوران» الذي قال: «الفوضى: هي أن تبذل كل ما تعلمته. الفوضى: هي أن تكون أنت» ص7. وكان القاسمي في «فوضاي» هو فعلًا بورقه وفكره كما اعتدنا أن نقول في المثل الشعبي: «بلحمه وشحمه»، وطوال قراءتك لكتابه هذا ستجد أنك أمام صورة «بانورامية» شمولية لأدق تفاصيل الأرض والإنسان والحياة اليومية والسلوكية والاجتماعية والنفسية والثقافية وكل ذلك سينعكس عليك دون أن تشعر؛ كونه استخدم أسلوب البناء اللغوي التعبيري الذي أخضعه لتقنية التوظيف الواقعي. يؤكد الكاتب في كل صفحة من كتابه الانسيابي على صدق بوحه وصراحته الواقعية، يقول: «ما أنا متأكد منه أن كل سطر مكتوب من مشاهد الواقع على اختلاف بسيط للأسماء والأمكنة.»ص14. وبما أن الكاتب قرر نسب الفوضى إليه في عتبة عنوانه «فوضاي» فهو بهذا يكمل معمار بنيته التعبيرية. لقد امتلك الكاتب قدرة استهداف مشاعر القارئ بطريقة عجيبة ولغة قريبة مباشرة لحاجته: لغة تعبّر عن مكنوناته وبذات اللحظة أراد بها الترافع عن ذوات كثيرة. يقول: «ولدت قبل سنين طويلة –حسب ذاكرة قلبي المهترئة-»، ويضيف: «أليست ثلاثة أسماء أعلى من الحد المسموح به للذاكرة المهترئة؟!» ص18. ولا يكاد يتوقف الكاتب طوال قراءتك لفوضاه من توظيف الفوضى الواقعية في مقاطع كثيرة بجميع إيقاعاته اللغوية، وذاكرته الاستلهامية والاسترجاعية وتماهيه مع مواقفه الجمّة في ذات الأماكن التي أشار إلى مواضعه الكتابية التي اكتتب فيها مخطوط فوضاه: كالبيت، والشارع، والعمل، وحتى غرفة راحته ونومه وسكينته.. إنه يكتب وينكتب ويستكتب في كل الأمكنة، إنه يستدعي كل شيء ليختلي أو يغتسل أو يُغسل قارئه بكل ما يحيطه من عوالم ومواقف، يقول: «أن تكون كريمًا في زمن كهذا فأنت تشبه من يضع محفظة نقوده في شارع ممتلئ باللصوص» ص23. ويستمر تواصل الكاتب التعبيري ذاتيًا مرة، ووصفيًا مرات أخر.. حتى تجد نفسك في خاتمة كتابه أمام سيل عرمٍ من البكاء على كل ما فات يقول: «المتعة أن ترتشف كوب بكاء»ص 175. وإذا ما أردنا تتبع المنهجية الواقعية الوصفية التحليلية التي كتب بها علي القاسمي كتابه «فوضاي» فإنني سأعتبره من وجهة نظري أحد النماذج التي اشتغلت على التواصل اللغوي مع القارئ، حيث إنك تجد نفسك أمام حكاية حوارية تُبلّغ غاياتها وليست مجرد سرديات لملء فراغات الورق فحسب. *صحفي وروائي