قد تبدو ترجمة كتاب"تاريخ ويوتوبيا"للكاتب الفرنسي الروماني الأصل سيوران التي أنجزها الشاعر التونسي آدم فتحي، حدثاً عادياً بما أن فتحي مكننا في مرة سابقة من قراءة هذا الكاتب بالعربية. وقد يبدو ذلك بديهياً فنقول"أنجز حرّ ما وعد". لكن الأمر ليس بالبساطة أو السهولة التي نعتقد، لا لصعوبة فعل الترجمة فحسب، بل لطبيعة كتابة سيوران من جهة، ولخصوصية هذا النص من جهة أخرى. إن كتابة سيوران تمثل في حد ذاتها حدثاً فريداً من نوعه في تاريخ الأدب الفرنسي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وفي وسعنا اعتبار كتاب"تاريخ ويوتوبيا"حدثاً داخل الحدث، فهو أثر نحن بأمسّ الحاجة اليه اليوم وغداً، لأنه يحمل"فكر ما بعد الوفاة"- بحسب عبارة نيتشه - أي أنه جاء ليملأ الفراغ الناتج عن موت المؤلف البيولوجي وصمته الابداعي على السواء. مثل هذه الكتب لا ينفتح بسهولة للقراءة، ولا يتمكن من فضّ الختم عنه الا الذين دربوا أنفسهم على ممارسة كتابة وفكر خطيرين بسبب ما ينتج عنهما من الأرق والدوار والغثيان. ولكن، وبعد خوض هذه المعركة، يخرج القارئ حياً، ربما لا رابحاً ولا منهزماً، بل مفتوح العينين فحسب، وواضح البصيرة، ليقرر بعد ذلك إن كان خاسراً أو منتصراً. وإذا كانت هذه القيمة جلية بالنسبة الى القراء الفرنسيين والأوروبيين عموماً، فهي كذلك بالنسبة الينا نحن قراء العربية، لما جاء في هذا الكتاب من المعاني - ولنقل الدروس - التي من شأنها أن تمكننا من جمع شتات صفوفنا المهزومة في خضم هذه المعركة المتواصلة التي نحن بصدد خوضها أمام عالم وثقافة وهوية لم ننل منها كي لا نقول لم نرث إلا ما أبعدنا عنها وعن أنفسنا. من هذا المنطلق يبدو الكاتب الروماني الأصل سيوران مرجعاً أساسياً لنا في مغامرة البحث عن هويتنا المبعثرة وعن امكانية تصالحنا مع الحضارة الغربية التي أسقطنا عليها ما زرعته فينا من شعور بالحرمان والإحساس بالنقص خلال الفترة الاستعمارية من جهة، وتبعاً للأحداث التاريخية اللاحقة على ذلك والراسخة فينا، من جهة أخرى. نعم، سيوران بصيص نور في العتمة المحيطة بنا لأنه تمكّن من حل هذا النزاع الراسخ أيضاً في هويته الرومانية أي الشرق أوروبية، عبر الكلمة والفكر، مغامراً في لغة ليست لغته الأم الفرنسية، تائهاً في مدينة ليست مدينته باريس، غارقاً في بحر داكن اللون وهو لا يجيد العوم - بحر المعنى وبالتحديد بحر إضفاء المعنى على الحياة. ولئن عالج آدم فتحي بعض هذه المسائل في مقدمته لكتاب"المياه كلها بلون الغرق"منشورات الجمل، 2003، وهو أول تعريب له لسيوران، فإنه يجدر بنا توضيح اختيارات المترجم الذي يقترح علينا اليوم أثراً آخر للكاتب يمكن أن يبدو مختلفاً عن سابقه. إذا كانت عبارة"المياه كلها بلون الغرق"عنواناً من اقتراح المترجم للالتفاف على جفاف العنوان الأصلي"مقايسات المرارة"، فإن عبارة"تاريخ ويوتوبيا"هي الترجمة الحرفية للعنوان الأصلي للكتاب الصادر بالفرنسية عام 1960، وهو الرابع في سجل أعمال سيوران، وذلك بعد صدور"غواية الوجود"1956،"المياه كلها بلون الغرق"1952، و"رسالة في التحلل"1949. ولئن لاحظنا هنا نظاماً نسقياً في تسلسل تواريخ صدور الكتب الاولى لسيوران - أي بمعدل يراوح بين ثلاث وأربع سنوات بين الاصدار والآخر - فإن هذا الأمر يستمر الى آخر حياة الكاتب الابداعية، وكأنه تعمد أن يعتكف كل مرة طيلة المدة المذكورة للإتيان بعمل جديد.... اختار المترجم أن ينقل الينا"جنساً أدبياً"جديداً كان سيوران أول من دعا اليه ودافع عنه. وقد لقي هذا الجنس الأدبي الجديد بعد ذلك شهرة كبيرة مع كتّاب فرنسيين كبار، مثل موريس بلانشو، جورج بيروس، لوي ريني دي فوري وباسكال كينيار، وكتّاب عرب نذكر منهم محمود المسعدي وابراهيم الكوني. ثانياً أن كتاب"تاريخ ويوتوبيا"هو أكبر كتب سيوران نظاماً ونسقية في بنيته الفكرية والاسلوبية. فهو شأنه شأن"غواية الوجود"يخضع لشكل نثري ذي حبكة فلسفية واضحة، على رغم أن"غواية الوجود": لا يتمحور حول فكرة أو موضوع محددين، فهو بمثابة استكشاف لمتاهات"الوجود"والرغبة الغاوية التي يبعثها في نفوس البشر، غاشياً بذلك أبصارهم عن امكانية النجاة بفضل"الفراغ"أو"العدم". إنه كتاب فريد من نوعه أو حدث داخل الحدث كما قلنا، كيفما حاولنا النفاذ اليه. فهو أثر متكامل إن تطرقنا اليه من باب الشكل الابداعي في الكتابة أو من باب الفكر المحض، علاوة على أنه يطرح قضايا حالية ومعاصرة لنا، وأكثر من ذلك: إنها قضايانا الأساسية التي لم نقدر بعد على حلها لأننا لم ننتبه اليها ولم نخضها بعد. إنها قضايا علاقتنا مع التاريخ - تاريخنا - في تبلوره وسيره جنباً الى جنب مع اليوتوبيا - أي أحلامنا وكوابيسنا معاً - التي ما استطعنا بعد رؤيتها بشيء من التروي والنضج في الفكر والقول والعمل على حد سواء. أليس هذا طريفاً وغريباً حقاً؟ بلى، ولكن علينا أخذ هذا الكتاب بكل ما أوتينا من قوة، وقراءته بالطريقة المنهجية التي يستحق، إذ أن أسلوب سيوران ليس أكاديمياً أو جامعياً. فهو يرفض الخضوع للمصطلحات والأنساق الفلسفية والفكرية والعلمية السائدة. هو أسلوب يكاد يكون شعرياً وإن اتخذ من النثر متناً له، وكأنه جاء ليجسد قول أبي حيان التوحيدي في"الإمتاع":"أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم". الليلة الخامسة والعشرون سيوران الذي يعتبر"الأسلوب مغامرة"يجوب مجال المعرفة بطريقة تبعث الاعجاب في نفس القارئ العارف الشغوف، فهو لا يستمد مرجعياته من كتب التاريخ بل من النصوص المؤسسة التي تشهد على معنى التاريخ المشترك للشعوب، لا للشعب فحسب بل للجنس البشري جمعاً وللانسان فرداً. واذا كان سيوران متأثراً بنيتشه، فهو يضرب عرض الحائط بمقولة"ما بعد الخير والشر"، ويدعو الى مراجعة هذا الاقرار الذي يعتبره"ساذجاً"و"صبيانياً"، لأنه يرى أن الانسان لم يتهيأ بعد لمرحلة ما بعد المانوية لما تتطلبه من وعي وادراك يكادان يخرجان الانسان من التاريخ ذاته. بذلك يبدو فهم سيوران للعالم وللتاريخ وللانسان فهماً تكوينياً أو"كوسموغونيا"- لما تتضمنه هذه الكلمة من دلالات ميتافيزيقية وأنطولوجية تدفع بنا نحو ذلك الماضي الغامض الذي درسه سيوران في كتابه"صانع الكون الشرير"1969. كاد سيوران أن ينقطع عن الكتابة بعد صدور كتابه"غواية الوجود"عام 1956 بسبب أزمة وجودية تتمثل في تساؤله عن مصيره كفرد وككاتب في فرنسا. لكن بفضل مجهودات الكاتب الكبير جون بولان الذي كان يدير آنذاك"المجلة الفرنسية الجديدة"، لم ينقطع سيوران عن الكتابة وتمكّن من مواصلة مسيرته. هذه المسيرة المتقطعة تعكس حياة الكاتب ذاته لا من حيث الشكل والمضمون فحسب بل كذلك من حيث أن الشكل مرآة تعكس حقيقة المضمون، ويبدو ذلك من خلال الجنس الأدبي الحر أو بالأحرى المتحرر الذي اعتمده. وإذا كان كتاب"تاريخ ويوتوبيا"ينتمي الى جنس الفكر أو المقالة الفكرية، فإن كتابة سيوران تتجاوز هذه المنظومة أو تتحرر منها، لتثبت وََهنَ كل النظريات الخاصة بالأجناس الأدبية. فالكتابة هنا كتابة فحسب. كتابة تنسلخ عن الأجناس كي تصير ماهيتها، ماهية ذاتها تحديداً، أي فعلاً شمولياً إن نمّ عن شيء فهو ينمّ عن ايمان عميق بعبثية كل شيء، حتى الكتابة ذاتها. للقارئ أن يلحظ ذلك منذ مطلع هذا الكتاب حيث يعبر سيوران عن صعوبة الكتابة، تلك الصعوبة التي تحدث عنها مراراً وتكراراً طوال حياته في معظم كتبه وحواراته، وكأن كتابته تتغذى منها أو على الأقل تستلهم منها نفوذها:"تريد أن تعرف إن كنت أفكر في العودة يوماً الى لغتنا نحن، أم أنني أعتزم البقاء وفياً لتلك الأخرى التي تنسب لي فيها رفاهة لا أملكها، ولن أملكها أبداً". أجل، صارع سيوران اللغة الفرنسية التي كانت ألد خصومه. ولئن اعتبره قراؤه من أهم الكتّاب الناطقين بالفرنسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، شأن الشاعر الكبير سان جون بيرس القائل إنه"أكبر الكتّاب الفرنسيين الذين تفتخر بهم لغتنا منذ وفاة فاليري"، فإن لسيوران رأياً آخر. إذ يعتبر أن لغته هزمته، وهي التي فرضت عليه هذا النمط غير النمطي في الكتابة، أي الجنس المقطعي أو الشذري، حتى وصلت به الى الصمت، علماً أن آخر كتبه"اعترافات ومحرّمات"صدر قبل ثماني سنوات من وفاته، وأنه انقطع تدريجاً عن الكتابة منذ بداية الثمانينات. ربما هو الملل الذي يسود أي صراع غير متكافئ، فسيوران يعتبر نفسه ضعيفاً أمام عظمة هذه اللغة، وبالتالي فهو وإن نجح في ترويضها لمدة ثلاثة عقود، يقر بفشله في ترويض ذاته من خلالها. الفشل هنا إذاً من نوع آخر: إنه يعني أن الكاتب لم ينجح في تغيير ذاته عبر الكتابة وأن مرضه الكامن في أصوله الجينيالوجية انتصر عليه وطرحه أرضاً. نعني هذا المرض الذي أفصح عنه في خاتمة رسالته الى صديقه البعيد:"تغريني في أحيان كثيرة فكرة انتحال سلالة أخرى لي، فكرة استبدال أسلافي وانتقائهم من بين من عرفوا في زمانهم كيف ينشرون الحداد بين الأمم، على النقيض من أسلافي، على النقيض من أسلافنا الباهتين...". هذا مريب فعلاً. ولكن من قال إن كتابة سيوران وفكره وحياته ليست بالمريبة؟ إن هذا الكتاب الذي يقدمه لنا آدم فتحي بالعربية وليد الشر، ذلك الشر الكامن فينا نحن البشر، وفي كل ما نصوغه في أعمالنا التي ننسبها بتعال مفرط الى"التاريخ". أليس ذلك ما عبر عنه سيوران ب"فايروس الحرية"على سبيل المثل، مبرزاً العكس تحديداً بهذا القول:"كما إنني أرى أن الطغاة، وإن كنت أمقتهم، هم الذين يصنعون نسيج التاريخ". فلتكن علاقتنا بسيوران وبنصوصه إذاً وثيقة، أي فلتنبن على أساسي الألم والشر، لأنهما الوحيدان الكفيلان بتوطيد علاقتنا بالمعرفة. ربما يبدو ذلك غريباً شأنه شأن أي"بدعة"جديدة في الفكر أو الأدب. ولنشكر مجدداً آدم فتحي على منحنا هذه الترجمة الصافية العذبة، التي جاءت في لغة احترمت كتابة سيوران وأبت إلا أن تبلغنا إياها شكلاً ومضموناً. ولنغص في عالم سيوران الملتبس، غير راجين فجراً ولا نوراً، لأن مثل هذا الليل يكشف لنا عن قدرنا الحقيقي الكامن في انسانيتنا الممزقة بين الأمل والألم والبشر والشر والتاريخ واليوتوبيا. المقال هذا جزء من المقدمة التي وضعها أيمن حسن للترجمة العربية. * شاعر وجامعي من تونس نشر في العدد: 17096 ت.م: 24-01-2010 ص: 25 ط: الرياض