الرواية الصغيرة العذبة البريئة التي أثْرتْ عالم الأدب بأكمله، الرواية التي حُولت قصصًا قصيرة مرسومة، وحُولت سلاسل كارتونية للأطفال وحُولت أفلامًا سينمائية طويلة لها ثقل ووزن في دنيا السينما وحُولت لأعمال موسيقية وأوبرا وغيرها الكثير. نساء صغيرات من تأليف لويزا ماي ألكوت والتي نُشرت في جزأين من عام 1868، قد يبدو غريبًا كيف أن حياة عاشت في هذا الزمن القديم لا يزال لها كل هذا الأثر علينا نحن أبناء القرن الواحد والعشرين، ربما لأنها تحكي ذات الحكاية الخالدة، منزل، أب غائب، أم مكافحة صامدة، وأربع أخوات لكل واحدة منهن حكايتها، مشاعرها، أحلامها، والمستقبل الذي رسم لكل واحدة منهن طريقها دون الأخريات. لويزا ماي مثلها مثل غالب فتيات عصرها في الولاياتالمتحدةالأمريكية كان عليها كسب معيشتها بنفسها، فبدأت بأعمال الحياكة ثم التدريس ثم التمريض خلال الحرب الأهلية الأمريكية ثم وأخيرًا عثرت على مكانها وكتبت ونُشرت كتاباتها ولاقت نجاحًا باهرًا، لهذا امرأة مثلها تعرف معنى الكفاح، معنى المعاناة، معنى الصبر طويلًا حتى تصل موطئ قدم قد يصلح لك وترتاح فيه، ثم هي بالطبع تملك ثلاث شقيقات وما كانت الرواية إلا خوضا في سلسلة ذكريات بعيدة وقريبة، ذكريات عن المنزل القديم وعن طفولتها ونشأتها بين ثلاثتهن «ميغ، جو، بيث»، وآمي، أربع فتيات مقتربات في العمر، تعشن وقتًا عصيبًا فالحرب مشتعلة والأب الحنون يقاتل على الجبهة، والأموال شحيحة نادرة، وتأخذ كل واحدة منهن على عاتقها مسؤولية بيتهن فمن اتجهت لتدريس الأولاد الصغار أو لمجالسة النساء العجائز اللاتي لا يعجبهن العجب أو لاصطحاب التلاميذ إلى مدارسهم وكان عليهم دائمًا احتمال الانتقادات والسخرية التي توجه إلى ملابسهن، ميغ أو مارغيريتا الكبرى الفاتنة وجو المتمردة ذات اللسان اللاذع والعينين الرماديتين الحادتين وبيث الرقيقة ذات القلب الهفهاف والصوت الخجول الحيي والصغرى آيمي بعينين زرقاوتين وخصلات شعر صفراء مجعدة والتي عشقت الرسم وكانت طوال صفحات الرواية تخطو بسرعة نحو النضج والتألق. الرواية بالطبع مفعمة بالتفاصيل التي تملؤها بالحياة وتجعل من كلماتها سحرًا حقيقيًا يتنفس، الحفلات التي يُدعين إليها، الضحكات والهمسات التي يتبادلنها في جوف الليل، الخوف والشفقة اللذان تحملها كل واحدة منهن للأخريات وللأم والأب، الشجارات الصغيرة التي لا مفر منها، المآسي التي تقع والمسرات التي تعرض للأسرة الصغيرة فتشيع في البيت حبورًا مهما كانت بساطتها. والرواية حافلة بالأحداث الصغيرة المتتالية التي تشكل بتضافرها معًا حياة الأخوات الأربع، وفي حين أن جوزيفين أو جو تكاد تكون البطلة الرئيسية هنا إلا أنها ليست الوحيدة فكل أخت تحتل قصتها موقعًا من الصدارة كل بضع صفحات في الرواية، والمذهل والممتع في الأمر هو أن لويزا ماي لم تخضع لمطالب الشعب بتزويج جو من لوري فتى الجيران الثري والذي كانت معرفته بجو بداية علاقة طويلة بين الأسرتين، بل أصرت الكاتبة أن تكون واقعية وهكذا لا ينتهي بهذين البطلين بالزواج بل يتزوج لوري الأخت الصغرى آيمي وقد شبت وكبرت وصارت آنسة غاية في الجمال، وفي حين ينتهي الأمر بميغ بالزواج أيضًا في منتصف الرواية، لا يبقى سوى بيث وجو، وهاتان الشقيقتان كانتا شديدة التعلق ببعضهما البعض، ولمّا تمرض بيث تظل جو إلى جوارها وهي تمني نفسها بالشفاء القريب لكن بيث لا تُشفى ولا تمكنها صحتها الضعيفة من تجاوز علتها ولمّا تُسلم الروح في هدوء يدمر رحيلها جو وحتى بعد أن تتخطى الأخريات أحزانهن لا تستطيع أن تفعل مثلهم ولا تعود جو المرحة الصاخبة قط مجددًا وكأن جزءًا منها غادر مع شقيقتها الصغيرة يوم غادرت، وهكذا ترتحل جو ويختلف طريقها عن الأخريات فهو شائك غامض مليء بالمفاجآت ويتحقق لها حلمها أن تصبح أديبة وتعثر أخيرًا على فارس أحلامها، مدرس بسيط متعقل هادئ يكبرها بكثير. «إنني كبير عليك وفقير فهل تقبلين الانتظار يا جو؟»، «أنا سعيدة لأنك فقير فأنا لا أستطيع أن أتحمل زوجًا غنيًا، لا تخش الفقر فقد خبرتُه طويلًا ويسعدني أن أعمل مع من أحبهم». في الرواية من القيم والتقاليد الرائعة والخلق الجميل الكثير وهذا أكثر ما يثمنه المرء، فأمريكا لم تكن دائمًا كما نراها اليوم وكل الأخلاق التي يحبون التظاهر بتجاهلها والدوس عليها الآن كانت عزيزة وغالية على مئات الأسر التي عاشت قبل بضع سنين. الرواية حولت إلى سلاسل تليفزيونية لعشرات المرات، كان منها مسلسلي الأنميّ الياباني المفضل الذي أنتج عام 1987 وكان بداية معرفتي بهذه الرواية الخلابة في وقت كانت اليابان تنافس فيه على تحويل كل الروايات العالمية الكلاسيكية إلى سلاسل كرتونية عذبة وجميلة. ثم إصدار عام 1949 والذي لعبت فيه الممثلة الشهيرة إليزابيث تايلور دور آيمي