آركابيتا وباركواي تستثمران في محفظة شركات ذكاء اصطناعي سريعة النمو    فهد بن نافل يهدي الممثل المصري محمد رمضان قميص الهلال    ترمب يبدأ حملة تصفية واسعة.. إقالات تطال ألف موظف في إدارة بايدن    رصد 67 مخالفة في منشآت التدريب الأهلية    الديوان الملكي: وفاة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن مشعل بن عبدالعزيز آل سعود    البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن يُشارك في الاجتماع الوزاري الدولي في نيويورك    بدء تطبيق آليات بيع المواشي الحية بالأوزان اعتبارًا من 01 محرم 1447ه    نائب أمير المدينة يكرم الطلبة المتميزين علمياً من المكفوفين    السفيرة الأميرة ريما بنت بندر تحضر حفل تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب    إطلاق خدمة «التحقق المهني» للعمالة الوافدة في 160 دولة    استمرار انخفاض درجات الحرارة على عدة مناطق    لا تفريغ للمرشحين.. الدراسة مسائية ومجانية    أحد رفيدة: طريق «المطبّات» يثير الاستغراب    أمير الحدود الشمالية: عام الحرف اليدوية يجسد اهتمام القيادة بترسيخ التراث وإبرازه عالمياً    شرطة الرياض تطيح 9 تورطوا في 33 حادثة احتيال    «ثلاثي العاصمة» يتحدَّون الوحدة والخليج والتعاون    مفوض الإفتاء في جازان خلال مبادرة اللحمة الوطنية دين ومسؤولية: الخير فينا فطرة ونسعى للأفضل    «عين» النصر على «غامدي» الاتحاد    مركز الأطراف الصناعية في مأرب يُقدم خدماته ل 484 مستفيدًا خلال شهر ديسمبر الماضي    «الجوال» يتصدّر مسببات حوادث المرور في نجران    وزير الداخلية يعزّي أسرة المورقي    أمير تبوك ونائبه يواسيان أسرة السحيباني في وفاة والدتهم    برئاسة نائب أمير مكة.. لجنة الحج تستعرض مشاريع المشاعر المقدسة    آلية تدمير التدخين الإلكتروني للرئتين    الفضة تغير لون الجلد    الهلال ونيمار.. أزمة حلها في الإعارة    مواجهات حاسمة في عودة دوري أبطال أوروبا.. ليفربول يواجه ليل الفرنسي.. وبرشلونة في اختبار بنفيكا    «الخارجية الفلسطينية» تُطالب بفرض عقوبات على المستوطنين    إنستغرام تعيد ميزة إعجابات الأصدقاء    السعودية ورهان العرب..    الحرب على غزة وتفكيك السردية الإسرائيلية    وماذا بعد صفقة غزة؟    26.7 مليار ريال قيمة مبيعات NHC" وشركائها    وزير النقل يستعرض خطط الوزارة في جلسة الشورى    متى تختفي ظاهرة اختلاف تفسير النظام من موظف إلى آخر    تمكين الشباب ودعم الشركات الصغيرة    حتى لو    تحديات مبتعثي اللغة وحلول مقترحة لدعم رحلتهم الأكاديمية    ماراثون أقرأ    الفلسفة أفقا للنهوض الحضاري    الأدب الكلاسيكي وفلسفة القديم والجديد    كتاب الموتى الرقمي والحق في النسيان    روائع الأوركسترا.. واستقرت بها «الرياض»!    مجلس الشورى في زيارة إلى الحدود الشمالية    منافسة لدعم الشركات المحلية المتخصصة في تقنيات الفضاء    محافظ جدة يطلع على برامج إدارة المساجد    آفة المقارنات    الحوار الصامت    "التجارة" تعزز التشريعات بصدور وتطوير لوائح جديدة    الحكم المحلي وعدالة المنافسة    الحديث مع النفس    بريطانيا تفرض غرامة مالية على العطس أثناء القيادة    تقنية طبية سعودية لعلاج أمراض فقرات الرقبة    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير إدارة برنامج الاستحواذ الدفاعي في كوريا    أمير تبوك ونائبه يواسيان أسرة السحيباني    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته لمراكز " قيا شقصان كلاخ والسديرة"    نائب أمير تبوك يستقبل قائد حرس الحدود بالمنطقة    أمير الرياض يعزي في وفاة المباركي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شرعية الأمن والوحدة السياسية العامل الرئيس في التفاف الناس حول مشروع آل سعود

قبل أن نتحدث عن النهج السياسي في فكر قادة الدولة السعودية الأولى، علينا أن نحاول الاقتراب من عقل المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود، فيوم التأسيس 1727 هو يومه، يوم تولّى إمارة الدرعية، ونجح في أول عهد في توحيد شطري البلد، في أول لبنة "توحيدية" استهلّ بها عهده المديد في الحكم.
لكن قبل الاسترسال في قراءة عقل الإمام محمد بن سعود في تلك المرحلة المبكرة لنجل النظر ولو لِماما على حال نجد السياسي حينذاك.
بلغ الوضع السياسي في نجد قبل قيام دولة آل سعود مستوى عميقا من التوحش والضياع، ومن أمثلة ذلك ما ذكر في المصادر القديمة وعلّق عليها شاعر وعين نجد الشهير "حميدان الشويعر".
وهي حادثة أبناء أمير "الحصون" وخلاصتها أن إبني عثمان بن نحيط، أمير قرية "الحصون" وهما سعود ومانع، تآمرا على أبيهما بالاتفاق مع أمير قرية "جلاجل" المعادي له بسبب ثأر قديم، فقتلا والدهما وحقّقا أمنية عدوه، في ذلك يقول حميدان الشويعر:
مثل راعي جلاجل مع ابن نحيط
أدركه من زمان وهو يسحره
ثم قال احملوا يا عياله عليه/ لمّه واحدٍ.. وآخرٍ عقره
يا عيال الندم يا رضاع الخدم
يا غذايا الغلاوين والبربره
ما يفك الحذر من سهوم القدر
والشويعر حميدان ياما أنذره
الوضع السياسي في نجد قبل قيام دولة آل سعود بلغ مستوىً عميقاً من التوحش والضياع
النفَس الديني في نجد
والحقيقة أن الوضع الديني النجدي لم يكن هو أصل المشكلة، مع إقرارنا بوجود ضعف ما في الجوانب الدينية لدى فئام من العوام والبداة، لكن البيئة النجدية العامة كانت أقرب إلى النفَس الحنبلي السلفي، فقد كان هناك علماء كبار على نهج العقيدة السلفية باعتراف الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- مثل حديثه الشهير عن الشيخ عبدالله بن عيسى، الذي قال عنه الشيخ محمد لمّا كان في "العيينة" إنه أجلّ علماء نجد، وكان الشيخ يوقّره ومن ذلك أن الشيخ محمد كتب رسالة وهو في العيينة إلى أهل الرياض ومنفوحة، وطلب من الشيخ ابن عيسى أن يضع تأييده معه في نفس الرسالة، وقال الشيخ في هذه الرسالة: "وشاهد هذا أن عبدالله بن عيسى ما نعرف في علماء نجد ولا علماء العارض ولا غيره من هو أجلّ منه".
وفي تعقيب الشيخ ابن عيسى على رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب بعدما أورد النصوص الدينية المعززة لعقيدة التوحيد، قال: "ولولا ضيق هذه الكراسة وإن الشيخ محمد أجاد وأفاد بما أسلفه من الكلام لأطلنا الكلام". حسب ابن غنام.
جذور الشرعية
كما نلاحظ هذا الملمح في تقدير دور آل سعود السياسي الأمني، في قصيدة الشيخ أحمد بن عيسى الشهيرة التي فيها يتأسف على ما حدث للدولة السعودية من شتات وفرقة بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي، في إشارة للعمق التاريخي لأسرة آل سعود، حين قال:
وأجدادكم أهل النباهة والعلا/ ألا فاقتفوا تلك الجدود الغوابر
وفي آية في الفتح قد جاء ذكركم/ وقد سطّر التفسير فيها أكابر
وفتيان صدق من رجال "حنيفة" / بأيديهم سمر القنا والبواتر.
إذن فقد كانت شرعية الأمن والوحدة السياسية، هي العامل الرئيس في التفاف الناس حول مشروع آل سعود، كما هو اسمهم الحديث وآل مقرن اسمهم القديم، ومن البدهي إن حكم هذه الدولة ينطلق من الأسس الدينية التشريعية والإصلاحية، فهي النهاية نابعة من صميم البيئة النجدية، ومن أجل ذلك تبنّت الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب.
يجب علينا تسليط الضوء على كيفية اعتمال أفكار الإصلاح الاجتماعي والسياسي في خيال وعقل وقلب الأمير محمد بن سعود، طيلة سنين، وكيف أنه كان يهجس بهذا المشروع بشكل غامض لكنه ملّح على خاطره، وإنه كان يأسى على هذا الشتات والمعارك الصغيرة بين أمراء البلدات والمدن والقرى النجدية، خاصة في إقليم العارض، وأنه تأمل في تاريخ الصراعات السياسية سواء في الدرعية أو جوارها، ثم تأمل في الفرص المهدرة، خاصة وأن أسلافه كان لهم معرفة وخبرة في تأمين الطرق التجارية والدينية وقوافل الحجيج.
نتصور أن هذه الخواطر كانت ديدن محمد بن سعود وكان يفضي بها إلى أقرب الناس له، إخوته ثنيان ومشاري وفرحان، وأنجاله: الشهداء فيصل وسعود، ثم الإمام عبدالعزيز وابنه الآخر، والمهم، عبدالله، والد المؤسس الثاني تركي بن عبدلله، وطبعا زوجته الحبيبة، موضي، وصديقه من أهل الدرعية، أحمد بن سويلم، ولذلك التقط كل هؤلاء الإشارة، فاهتموا بحكاية ابن عبدالوهاب، ذلك الداعية المثير للانتباه، فقرر محمد بن سعود وضع خطة لاستقطابه وتشجيعه على القدوم للدرعية من أجل رفد مشروعه السياسي، برافد أخلاقي ديني ضميري هو بمثابة الجناح القيمي والفكري لهذا المشروع.
حلم محمد بن سعود
الإمام محمد بن سعود ( توفي 1765م) أو الأمير محمد، أو شيخ الدرعية، هو البطل المؤسس الحقيقي لنشأة التاريخ السعودي القديم، هو سليل أسرة نبيلة، حكم أسلافها مدينة الدرعية وأحيانا امتد حكمها، حسب طموح وهمة بعض حكامها، إلى حدود بعيدة خارج الدرعية.
أول أمير من هذه الأسرة يذكره لنا التاريخ، هو مانع المريدي، وكان تأسيسه للدرعية 850 هجرية نحو 1446 م بينما تم اللقاء بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب في الدرعية في العام 1744 م يعني بعد ثلاث مئة عام من تأسيس الجد الأكبر مانع المريدي لإمارة الدرعية.
بل إن محمد بن سعود نفسه حكم قبل اجتماعه الشهير بالداعية الديني محمد بن عبدالوهاب عشرين عاما، ثم حكم بعد هذا الاجتماع عشرين عاما ثانية.. تقريبا!
هو محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي.
كان رجلا صاحب همّة وطموح وذكاء سياسي، تحدثت عنه عدة مصادرة محلية وأجنبية، أشار لها بالتفصيل المؤرخ الدكتور منير العجلاني، الذي سيأتي كلام له مهم عن الدور المهضوم لهذا المؤسس الكبير.
إرهاصات سابقة
لدينا شخصية مهمة هي الجد الخامس للأمير محمد بن سعود، هو الأمير إبراهيم بن موسى. وتشير وثيقة عثمانية مؤرخة عام 1573م (نشرها وكتب عنها الدكتور راشد العساكر) إلى دور هذا الأمير في تأمين قوافل الحج العراقي والعجمي المقبل من الشرق، كما أن هذا الأمير وسّع حدود إمارة الدرعية بشكل كبير ناحية الشمال خاصة، وكانت له -أو لوالده موسى- محاولة جريئة، وربما إرهاصية، لما فعله حفيده محمد بن سعود، حين استقدم الأمير إبراهيم -أو والده موسى- رجل إصلاح ديني نجدي كبير وهو شيخ علماء نجد كلهم، من نفس الإقليم، العارض، هو الشيخ أحمد بن عطوة، إلى الدرعية!
حكم محمد بن سعود الدرعية 20 عاما قبل اللقاء الشهير بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهي مدة قياسية في عصور الفتن السياسية الأمنية وقتها، ما يشير إلى حسن سياسته، وحصافته، ورضا الأهالي عنه.
حين وصل الإمام محمد بن سعود لحكم الدرعية عام 1727 اعتبرت تلك نقطة فاصلة حيث سعى محمد بن سعود على استتباب الأمن وحرص على إبعاد أي نفوذ لأي جهة داخلية خارجية على الدرعية، كما يلاحظ الباحث السعودي في التاريخ الدكتور أحمد البسام. ونتيجة لذلك بقت الدرعية بمنأى عن المشكلات والمنازعات مع الأطراف الأخرى في نجد الموالية لهذه القوة الخارجية أو تلك.
شخصية الدرعية
ويذكر الباحث الدكتور عادل الفقير في بحثه عن ملامح الدرعية الجغرافية والسكانية أن عام وصول محمد بن سعود لحكم الدرعية شكل "انعطافة مفصلية عظمى" لقد كان هناك إرهاصات ومقدمات قبل وصول محمد بن سعود، في التاريخ السياسي لأمراء الدرعية، ومن ذلك لحظة الجد الأمير موسى بن ربيعة وهو حفيد المؤسس مانع المريدي، حيث وصف هذا الأمير بالقوة وإنه في عهده تألف حوله مجموعة من الأنصار" الموالفة" فقادهم لتوسيع نطاق الدرعية حتى وصل بها إلى أقصى نقطة لها قبل قيام الدولة السعودية الأولى".
ومن دلائل استقلال الدرعية القديمة وبعدها عن المحاور الخارجية دحرها لغزو جيش الشرق جيش الدولة الخالدية القوية "آل حميد" وذلك عام 1727 بقيادة محمد بن سعود ورجاله.
عموما كان في منطقة العارض ملامح من هذه النزعة الاستقلالية حتى صارت لديهم عملة نقدية محلية تسمى "المطبق" وكذلك مكاييل خاصة بهم مثل الصاع العارضي.
قصة اللقاء
أما قصة تبنّي الأمير للاصلاح الديني والسياسي واحتضانه لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، -رحمه الله- فهي قصة تحتاج لإزالة الغبار عنها من جديد، إذ أن المتداول أن الشيخ قدم الدرعية دون علم أميرها محمد بن سعود، وإنه كان له جماعة قليلة من الأنصار، وإن الأمير محمد فوجئ بهذا القدوم، ثم بعد نصيحة زوجته العاقلة الأميرة موضي بنت أبي وهطان وأخيه ثنيان الضرير المعروف باسم ثنيان العمى، وافق على استضافة الشيخ، كل هذه السردية يعالجها من جديد الدكتور منير العجلاني -رحمه الله-.
لنقرأ هذه العبارة الكاشفة للدكتور العجلاني: "يصف لنا ابن بشر قدوم الشيخ إلى الدرعية وصفا شعريا مجنّح الأخيلة".
المؤرخ الدكتور منير العجلاني، ينتقد هذه السردية، فيقول :"وفي اعتقادنا أن الشيخ لم يخرج من العيينة إلا بعد أن دعته الدرعية إليها، ولم تكن الدرعية غريبة عن دعوة الشيخ، فقد كان الشيخ قبل التجائه إلى الدرعية على صلة وثيقة بعدد غير قليل من كبار رجالها، يكتب إليهم ويكتبون إليه". ويذكر منهم آل سويلم وإخوة الأمير محمد، وهما ثنيان ومشاري، كما أيضا ابن الأمير محمد، ولي عهده لاحقا، الإمام عبدالعزيز.. وكذلك زوجة الأمير محمد، موضي".
يسأل العجلاني متعجبّبا : "فهل كان الأمير محمد بن سعود يجهل كل ذلك، ولو أنه -كما زعموا-عدوا للشيخ وللدعوة، فهل كان يترك ولده عبدالعزيز يراسل الشيخ؟ إن المنطق يدعونا إلى الشك في أقوال ابن بشر!".
ثم يتابع العجلاني مستشهدا برواية من وصفه ب المؤرخ الفرنسي الكبير(مانجان) الذي استقى معلوماته من آل سعود وآل الشيخ الذين كانوا منفيين في مصر، فقد نقل عنهم أن الشيخ أبلغ أمير الدرعية سلفا بكل خطته، فكانت هجرته أصلا إلى الدرعية بعد ترتيب دقيق وتجهيز سابق بل و"دعوة ابتدائية" من الأمير محمد بن سعود، وإن الأمير محمد أرسل للشيخ سلفا فرسانا لاستقباله ومواكبته قبل وصوله الدرعية.
كما يذكر صاحب كتاب لمع الشهاب، إن الأمير محمد وابنه عبدالعزيز شخصيا خرجا لاستقبال الشيخ وعائلته وأتباعه خارج الدرعية، وتلقاه الأمير بالقبول والدعم.
ثم يفنّد العجلاني كلام بعض الكتاب مثل صلاح العقاد وغيره عن اشتراطات سياسية وسيادية فرضها ابن عبدالوهاب على الأمير محمد بن سعود، ويوجز العجلاني نقده بالقول: "في اعتقادنا أن الشيخ لم يشترط لنفسه وعقبه شيئا من المناصب، وإن كانت رئاسة الشؤن الدينية لا منصب الإمامة كانت بيد الشيخ في حياته، ثم صارت إلى أولاده بعد موته، غير أن ذلك لم يكن بفضل الشروط والمعاهدات".ص94 وقد ذكر العجلاني نقاشات أكثر تفصيلا في كتابه الموسوعي (تاريخ البلاد العربية السعودية) في الجزء الأول منه.
الجدير ذكره أن الدكتور العجلاني صنّف كتابه هذا في عهد الملك فيصل، بعد أن حقّق قصب السبق فيه، بالاتكاء على عدة وثائق أجنبية بعدة لغات، كما على المصادر المحلية، فضلا عن المقابلات الشخصية مع كبار أهل الشأن من الأسرة السعودية ورجالات السعودية منذ عهد الملك عبدالعزيز.
العجلاني حاصل على دكتوراه الدولة من الحقوق من جامعة باريس، وهو عضو المجمع العلمي بدمشق وكبير المستشارين في وزارة المعارف السعودية ومستشار دارة الملك عبدالعزيز التاريخية، ورئيس تحرير المجلة العربية.
الدولة مع الإمام محمد.. تحديات
بعد ذلك نأتي إلى مواقف القيادة السعودية للدولة الأولى وطبيعة التحديات السياسية القائمة حينها.
الدولة العثمانية التي كانت مترامية الأطراف ومركز نفوذها في المنطقة هي في الجهات الحضرية الكبرى مثل العراق والشام ومصر، وبالنسبة للجزيرة العربية لم يكن يهمها إلا الحرمان للجانب الديني اللازم "لسلطان المسلمين وخادم الحرمين" وأيضا السواحل البحرية وإيالة الأحساء بسبب غناها، وكان شرق الجزيرة العربية مرتبط بالإدارة العثمانية في العراق والبصرة تحديدا.
وعليه فالدولة العثمانية، لم تكن مهتمة بالقضاء على الدولة السعودية وإسقاطها إلا بعد قيام الدولة بضم الحجاز -وقبله الأحساء الغني والوصول للبحر- والمهم في الحجاز هو مكة والمدينة، حيث حُرم السلطان العثماني من لقب خادم الحرمين الشريفين وحامي حمى الحرمين الشريفين، كما أن الإمام سعود بن عبدالعزيز منع قدوم الحجاج من مصر والشام إذا صحبهم المحمل وكان لذلك المنع أسباب عسكرية وسياسية مع السبب الديني، حيث كانت تلك القوافل ذات طابع عسكري أساسي ويكفي أن من يقودها عادة هم كبار رجال الدولة العثمانية من الولاة وغيرهم، وكان الإمام سعود يخشى من هذه القوافل العسكرية أن تساند شريف مكة أو غيره من الخصوم ضد المصالح السعودية.
استمرت سياسة الدولة السعودية طيلة عهد الإمام محمد بن سعود شبه داخلية وليس لها تماسّ خارجي، وشطرا من عهد خلفه الإمام عبدالعزيز، لكن بعد توسع الدولة شمالا وسيطرته تقريبا على ممرات التجارة البرية بين غرب الفرات وسواحل الشام، انتبهت بريطانيا لذلك وهي كانت أكبر قوة تجارية وسياسية أيضا في المنطقة وحدث اتصال مثير بين الوكيل البريطاني والإمام عبدالعزيز بن محمد لبحث تأمين طرق التجارة البريطانية البرية، وقد تجاوب الإمام عبدالعزيز إيجابيا مع ذلك.
كان إقليم الحجاز قبل ضم الدولة السعودية له تحت حكم الأشراف الذين يدينيون بالولاء الديني والسياسي للسلطان العثماني بسطوا نفوذهم على مكة والطائف وبادية الحجاز وبعض تهامة، وكانوا من حين لآخر يقومون بغزو نجد إما لإظهار القوة أو لمجرد الطمع في الغنائم.
اكتمال المشروع
وكانت الدولة السعودية الأولى قبل ذلك قد أمضت منذ انطلاق مشروع الوحدة عام 1744م نحو الأربعين عاما لاستكمال الوحدة السياسية في منطقة نجد فقط.
سنة 1773 فاصلة كما يقول المؤرخ الدكتور خليفة المسعود حيث تم ضم الرياض أخيرا ليتبعها ضم الوشم وسدير والقصيم وحائل وبقية المناطق في جنوب نجد حتى وادي الداوسر، ثم القضاء على الإمارة الخالدية وضم الأحساء الغني والمتنوع، كان ضم الأحساء بعد تمرد قادهُ أميرها الأخير من الأسرة الحاكمة السابقة، وهو المعيّن أصلا من طرف الدرعية، كان الضم الأخير عام 1794 مرحلة مهمة حيث وفر للدولة السعودية لأول مرة إطلالة على البحر، خليج العرب، ما يعني الاتصال الدولي بالقوى العظمى التي كان أهمها حينذاك الأمبراطورية البريطانية.. سيدة البحار.
أيضا ضم الحجاز مع الإبقاء على أميرها الشريفي، عام 1803 شكّل نقلة كبرى على مستوى النفوذ الدولي السعودي لما يمثله أمر مكة من أهمية قصوى لكل المسلمين وبالتالي أهمية دولية كبرى.
وعلى مستوى الخليج العربي واصلت الدولة السعودية توسيع الوحدة السياسية لتضم قطر وتخلص البحرين من الغزو العماني المدعوم من بريطانيا.
هذا التوسع شرقا وغربا وشمالا وجنوبا (أجزاء من بلاد الشام العراق وأجزاء من اليمن الكبرى وأجزاء واسعة من عمان بمفهومها القديم) جعل الدرعية على تماس مع قوى مثل بريطانيا كما ذكرنا ودولة فارس ناحية العراق والخليج العربي والأهم... الدولة العثمانية ذات النفوذ الأكبر، ولا نغفل أيضا التماس مع فرنسا "النابولونية" التي غزت الشرق وطاردت النفوذ البريطاني.
التماسّ مع الخارج
بالنسبة لبريطانيا فقد كان التوسع السعودي في الخليج العربي وإماراته خاصة العلاقة الخاصة مع رأس الخيمة والشارقة وبقية القواسم وغيرهم من الموالين للدرعية، أمرا مقلقا، وحاولت بريطانيا تجنب الصدام المباشر مع الدرعية وسعت لتشتيت العلاقة بين القواسم وآل سعود، ولذلك ساندت سلطان عمان وعقدت معه معاهدة، وفي اللحظة نفسها كما لاحظ د. خليفة المسعود، سعت الدرعية لعدم إثارة المشكلات مع بريطانيا ذات القوة الهائلة مع إبقاء الدعم للقواسم، وهذا، كما يقول المسعود، ما دعا الدرعية لعزل سلطان بن صقر القاسمي حاكم رأس الخيمة بسبب شدّته وعدم حصافته في التعامل مع واقع النفوذ البريطاني.
كانت فلسفة بريطانيا هي التعامل فقط مع السواحل والبحر وعدم التورط المباشر في داخل الجزيرة العربية، رغم أنها تدعم الجهود المحاربة للدولة السعودية ومن ذلك الاتصال الذي أجرته عبر مبعوثها الكابتن سادلير لإبراهيم باشا عقب فراغه من هدم الدرعية ونهاية الدولة السعودية الأولى، حيث كان من أهم أهداف الاتصال مع إبراهيم باشا هو التفاهم على ميراث الدولة السعودية الأولى.
الغروب الأول
تطور الأداء السياسي الخارجي خاصة في عهد الإمام سعود وأواخر عهد الإمام عبدالعزيز، لكن حدث أمر جلل، غيّر كل شيء، وهو غزو القوات العثمانية المصرية بتدبير محمد علي باشا وتكليف من السلطان العثماني شخصيا، بعد نجاح الدولة السعودية في دحر حملات ولاة العراق وقادتها ومن أشهر تلك الحملات الخطيرة حملة ثويني أمير المنتفق ثم حملة علي باشا. ناهيك عن محاولات ولاة الشام الفاشلة.
لذلك قام السلطان العثماني بتكليف واليه في مصر محمد علي بإرسال حملة للقضاء على الدولة السعودية في عام 1807م وتلكأ محمد علي في تنفيذ الأوامر لمدة أربع سنوات ليحصل على المزيد من المال والسلاح وسير الحملة بقيادة ابنه طوسون ووصلت إلى ينبع في عام 1811م وتقابلت مع قوات الدولة السعودية في وادي الصفراء بقيادة الأمير عبدالله بن سعود، وانتصر الأمير عبدالله إلا أنه لم يواصل تتبع قوات الحملة خوفاً من وجود كمائن فعادت الحملة إلى ينبع.
وقام طوسون بإرسال حملتين إحداهما إلى الحناكية والاخرى إلى تُربة، وبعد علم الإمام سعود بذلك اتجه بقواته إلى الحناكية وحاصر قوات طوسون وأجبرهم على الاستسلام وأرسلهم مخفورين إلى العراق بحراسة أمير حائل محمد بن عبدالمحسن آل علي، وهذا التصرف تكرر بعد عقود من السنين مع الملك عبدالعزيز حين أجبر القوات العثمانية على الرحيل من نجد ورحّل قسما منهم للعراق والآخر للمدينة المنورة.
لكن وفاة الإمام سعود بن عبدالعزيز عام 1814م أضعفت الجبهة السعودية لأن خلفه الإمام عبدالله، على جهود المقدرة، لم يكن متصفاً بكل صفات القيادة التي اتصف بها والده، ولذا فقد تغير الوضع لصالح القوات الغازية التي انتصرت على قوات الدولة السعودية في منطقة بِسل شرق الطائف عام 1815م وتقدمت إلى تُربة ورنية وبيشة، وبعد تحقيق هذا النجاح غادر محمد علي إلى مصر بعد ما سمع بمحاولات ثورة عليه هناك، وبقية القصة معروفة وهي حملة إبراهيم باشا نجل عزيز مصر، وهي التي نجحت بعد ملاحم سطرها السعوديون ضد القوات الغازية، لكن نفذ القدر وسقطت الدرعية عام 1818 وعاث الغزاة فسادا حتى نجح الإمام تركي بن عبدالله في استعادة الدولة في ملحمة بطولية هي الأخرى عام 1824.
صفوة القول إن قادة السعودية خاصة في عهدي عبدالعزيز بن محمد ونجله سعود العظيم كانت قد ارتقت بالعلاقات الدولية والتفاهمات السياسية مع بريطانيا وفرنسا وغيرها من القوى، وحاولت ما استطاعت لذلك سبيلا أن تبحر بسفينة الدولة نحو النجاة، لكن ومع الإقرار بوجود سياسات كان يمكن تلافيها، ومع تضافر الجهود الدولية الكبرى (بريطانيا في الخفاء كانت تدعم حملات محمد علي ضد السعودية) فضلا عن الدور الأساسي للإمبراطورية العثمانية، لم تستطع الدرعية مقاومة كل هذه القوى الهائلة، فكانت السقطة ثم تلاها النهوض في الدولة الثانية.
كتبها/ مشاري الذايدي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.