ولعل الطابع الأساسي الذي يميز الحضارة الهندية هو الاستمرارية، ولكي ندرك مدى عمق استمرارية الحضارة الهندية وأصالتها، يكفي أن نتذكر أن اللغة السنسكريتية التي وضع قواعدها بانين منذ نحو 5000 سنة قبل الميلاد هي التي يتعلمها أطفال الهنود اليوم.. كانت شبه القارة الهندية في البداية جزءا من قارة كبرى عرفت باسم "جوندوانا"، كانت تمتد من إفريقيا الجنوبية مارة عبر أستراليا حتى تبلغ أمريكاالجنوبية، وبعد فترة طويلة من الزمن أخذت شبه القارة الهندية شكلها الجغرافي الحالي، نتيجة للهزات الأرضية والتطورات الجيولوجية العديدة التي أحدثت التغيرات والتقلبات في الجبال والبحور والأراضي؛ فنشأت الحدود الجغرافية والطبيعية التكوينية الحالية لشبه القارة الهندية. وتستمد الهند اسمها من كلمة "سندهور"، وهو الاسم الهندي لنهر "الإندوس" وهو نهر "السند"، ومن هذه الكلمة اشتقت كلمتا "إند" و"هند" ومعناهما: الأرض التي تقع فيما وراء نهر الإندوس، حيث أصبح سكان هذا الإقليم يسمون بالهندوس أو الهنود، كما أصبحت بلادهم تعرف بالهندستان. على أن غوستاف لوبون في كتابه (حضارة الهند) أبدى رأيًا آخر، وقال: "يحتمل اشتقاق هذا الاسم من اسم إله الهنود إندرا". وأياً ما كان أصل كلمة "الهند" فإننا نعني بها البلاد الشاسعة التي يحدها من الشمال سلسلة جبال الهملايا، ومن الغرب جبال هندكوش وسليمان، حيث تقع أفغانستانوإيران، ثم تمتد الهند إلى الجنوب في شبه جزيرة يقع بحر العرب في غربها وخليج البنغال في شرقها وسيلان في طرفها الجنوبي، ويتجه الإقليم الشمالي منها إلى الشرق، حتى جبال آسام. فهي تقع إذنك شمال خط الاستواء بين خطي عرض 8- 37 وخطي طول 61-100 شرق غرينتش، في الإقليم الحار والإقليم المعتدل. وإن الوحدة الجغرافية لشبه القارة الهندية محفوفة بجبال الهيملايا في الشمال، التي تشكل سوراً يمتد بلا انقطاع من الشرق إلى الغرب مسافة 1600 ميل، وبعرض يبلغ 250 ميلاً، أما في الجنوب فقد أقام المحيط الهندي حاجزاً مهيباً، وإن كانت الهند قطراً منفصلاً قائماً بذاته من الناحية الجغرافية، فهي من حيث سعتها أقرب إلى أن تكون قارة، فحجمها يساوي القارة الأوروبية باستثناء روسيا، أو أكثر من عشرين مرة ضعف مساحة بريطانيا. وشبه القارة الهندية عبارة عن مثلث ضخم يمتد بين المحيط الهندي وسلسلة جبال الهملايا، وهي منطقة شبه منغلقة على نفسها، ولا منفد إليها إلا عن طريق مضايق جبلية في الشمال الغربي، وهي المضايق التي سلكتها الجيوش الأجنبية الغازية للهند في العصور القديمة، مثل: الآريين واليونان والسيث. وكان الآريون من أوائل من عبروا تلك المضايق إلى شبه القارة الهندية، والآريون سلالة شرقية للشعوب الهندية الأوروبية، التي كانت تستوطن آسيا الصغرى والنجود الإيرانية، وقد غادرت بعض هذه القبائل إيران متجهة إلى الشرق عبر أفغانستان، حتى وصلوا إلى الهند، وكانوا أقرب إلى الغزاة منهم إلى الفاتحين، وكانت لديهم مهارة في الحروب وروح قتالية، مكنتهم في النهاية من السيادة على الهند. مر الآريون أثناء توغلهم في جنوب شبه القارة الهندية، بسلالات هندية تنتمي إلى جماعتين إنثوغرافيتين متميزتين لغوياً، وهما: "المنداس" و"الدرافيديين"، اللتين كانتا تقيمان في مهنجو -دارو- على الضفة الغربية من السند الأدنى، وقد استدل علماء الآثار من آثارهما على حضارة الهند القديمة، وعثروا في أنقاضهما على آثار هياكل عظمية بشرية محترقة ومبتورة الأطراف، ويبدو أن هؤلاء الغزاة –الآريين- هم الذين دمروا السلالات الهندية القديمة من جماعتي المنداس والدرافيديين.. كما مر الآريون في شمال القارة بأقدم السلالات الهندية، والتي تعرف ب"الناجا" والذين كانوا يعبدون الثعبان. قام الآريون أثناء توغلهم في الشمال، بمطاردة الشعوب الهندية الملونة، واحتلوا المناطق الواقعة على ضفاف نهر الكنج، في غضون القرن الثامن قبل الميلاد، كما قاموا بحملات عسكرية في مناطق دكا، ولكنهم لم يخضعوها لسلطانهم. فالهند من الأمم ذات الحضارات القديمة، فقد كانت الحضارة الهندية مرافقة في نشوئها لحضارات مصر وبابل وآشور واليونان. ويقول المؤرخون: إن حضارة الهند بدأت في حوض السند، وهو أقرب مكان في الهند إلى بلاد تلك الحضارات القديمة، وذلك قبل الميلاد بنحو أربعة آلاف سنة، ولكن المؤرخين عاجزون عن الإتيان بمعارف كاملة مسلسلة عن تاريخ الهند منذ تلك الحقبة. يقول غوستاف لوبونك: "ليس للهند القديمة تاريخ، وليس في كتبها وثائق عن ماضيها، ولا تقوم مبانيها مقام الكتب، ما دامت لا تزيد في القدم على ثلاثة قرون قبل الميلاد، ولولا ما في قليل من الكتب الدينية، من أكداس الأساطير التي تستشف منها الحوادث التاريخية؛ لظل ماضي الهند مجهولاً". وأقدم المصادر التي يمكن الرجوع إليها من أجل تلمس معالم الماضي المفقود هي أشعار الفيدا الدينية التي كتبت في أدوار مختلفة، والتي تصل في القدم إلى ما قبل القرن الخامس عشر قبل الميلاد، على أن كثيراً من الآثار التي كشف عنها المنقبون، يمكن أن تعطينا صورة عن تاريخ الهند وحضارتها القديمة. وتشير المصادر التاريخية إلى إنه على الرغم من أن الهند محاطة بحواجز طبيعية، عزلتها عن العالم على مر السنين، إلا أنها تعرضت للغزو دائماً من الغرب، حيث توجد الممرات التي تصلها بالدول الغربية منها، فقد غزاها الآريون المنحدرون من أواسط آسيا قبل الميلاد بنحو ألفي سنة، وإن كانت بعض تلك المصادر ترجع ذلك إلى أكثر من أربعة آلاف سنة. وقد بينت البحوث الأثرية التاريخية الحديثة، وخاصة منها التنقيب الأثري الذي أجري في سنة 1921 على أقدم ما يعرف من آثار الحضارة الهندية، في موهنجو - دارا بولاية البنجاب على ضفاف نهر روي أحد روافد نهر مهران، حيث كشفت هذه البحوث عن أن حضارة الهند قد ازدهرت في غضون الفترة ما بين الألف الثالثة والألف الأولى قبل الميلاد، وإن كان الهنود يعتقدون بأن الحضارة الهندية حضارة أزلية، لأن أول تعبير عن هذه الحضارة قد وجد في كتب الفيدا الأربعة، المكتوبة باللغة السنسكريتية، والتي هي أقدم الكتب في العالم كله. وسر استمرارية هذه الحضارة وتدفقها هو في تسامحها ونظرتها الواسعة للأشياء، فهي تعتقد أن الحقيقة واحدة ولكنها ذات جوانب متعددة، وكل مفكر قد لا يرى منها سوى جانب واحد. وكانت الحضارة الهندية عبر عصورها التاريخية منفتحة على العالم الخارجي متفاعلة مع شتى الحضارات والثقافات ابتداء من تفاعلها بالحضارة اليونانية، ثم استجابتها المبكرة منذ القرن الميلاد الأول لدعوة المسيح عليه السلام، ثم في العصور الوسطى كان تفاعلها الكبير مع الحضارة الإسلامية، وبالروح المنفتحة نفسها تفاعلت الحضارة الهندية مع الحضارة العلمية الحديثة. ولعل الطابع الأساسي الذي يميز الحضارة الهندية هو الاستمرارية، ولكي ندرك مدى عمق استمرارية الحضارة الهندية وأصالتها، يكفي أن نتذكر أن اللغة السنسكريتية التي وضع قواعدها بانين منذ نحو 5000 سنة قبل الميلاد، هي التي يتعلمها أطفال الهنود اليوم، وكان التعليم الشفوي وسيلة الاحتفاظ بتاريخ الأمة الهندية وآدابها، وذلك من خلال الروايات الشفهية والملاحم، ومن أشهر الملاحم التي ذاعت بين الناس ملحمة المهاباهارات إضافة إلى ملحمة رامايانا. ومن أبرز جوانب الحضارة الهندية بعد الفلسفة الدينية: الفنون التي يعتبرها الهنود منذ أقدم العصور الوسيلة الأولى للتربية وتهذيب النفوس، معتقدين أن في إمكان الإنسان أن يبلغ إلى قمة المعرفة عن طريق الفنون، ومن واقع هذه الفلسفة يكمن ضعف الهندوسي وتكمن قوته على السواء، تكمن خرافته كما تكمن وداعته، ويكمن ميله إلى الانطواء على نفسه كما يكمن نفاذ بصيرته، ويكمن تأخره كما يكمن عمقه. لذلك فالهند قد مرت بثلاثة أدوار تاريخية وجغرافية، تشكل الدور الأول في الفترة الزمنية الطويلة الممتدة من أقدم العصور، وانتهت في العام 1947م، حيث كانت تشمل رقعة جغرافية واسعة، ضمت كلاً من الهند الحالية، وباكستان، وبنغلاديش، وبورما، وبهوتان، ومالديب، ونيبال، وسريلانكا. أما الدور الثاني، فيبدأ من العام 1947م، ويضم الوحدة الجغرافية التي تتكون من الهند الحالية وباكستان وبنغلاديش. ويتركز الدور الثالث والأخير، في جمهورية الهند الحديثة، التي تمتد حدودها الدولية لمسافة 9988 كم مربع، وتجاور ست دول آسيوية، هي: الصين، ونيبال، وبوتان، وبورما، وبنغلاديش، وباكستان.