مذ وعيت الدنيا ووالداي -حفظهما الله- يستمعون لإذاعة القرآن وبرامجها العلمية، دربوا سمعي على حفظ الأشعار ذات المعاني الغزيرة واللقاءات والخطب الفصيحة من علماء وأساتذة أفاضل متخصصين في العقيدة والفقه والتفسير والسير والأدب والتاريخ وغيرها، وكان لهم الفضل بعد الله في حفاظي على الهوية وحبي للسان العربي والفخر به والذود عنه من كل نقيصة. شعورٌ فائق الوصف عند ارتفاعي للكتاب الأول الذي كان تفريغا نصيا لإحدى المحاضرات، من بعده كنت متلهفًا لمعاينة ذات الأسلوب القصصي من كتاب آخر تعرفت فيه على كتاب من كتب الأدب وألزمت نفسي على نسخه مرة واحدة على الأقل وألا أتجاوزه كسابقه. أسرني وشدّني كثيرًا جماليات كتب الأدب وأنها تعلم الأدب والمروءة والرجولة ومن وعاها بقلبه رقَّ طبعه وزاد عقله ولطف حسه بمن حوله وتهذبت أخلاقه! نظم الشعر وكتابة القصة والرواية وأدب الرحلات والوقوف بجانب السير الذاتية واقتناص فوائدها والنهل من معينها، وما يدور حولها... خلصت إلى أنها تقويم للملكة البيانية ورفع للذائقة الأدبية ولثراء المخزون اللغوي والترنم والطرب بأشعار العرب فصيحها وعامّيها، ومعرفة بما ينطق به الآخرين وما يعتلج في نفوسهم أو كما قال محمود شاكر في جمهرة مقالاته: أيها القارئ.. أصارحك بأني ما كتبت قط إلا لنفسي وحدها، ثم لا ألبث أن أعرض عليك ما أكتب، لا لأُعلمك أو أنفعك، بل لتعرف كيف يفكر إنسان مثلك! إن قراءة الأدب ليست كما يراها بعضهم أنها نشاط كمالي يمكن الاستغناء عنه! بل هي مواجهة للمشكلات الناجمة عن الخيال الفقير والفكرة الموحشة التي تنشأ في لحظة فزع. إنك ببساطة قادر على التعبير عن الأفكار والانفعالات والعواطف بدقة، ومشاركتها للطرف الآخر من هذا العالم. يقول ماريو بارغاس يوسا الفائز بجائزة نوبل للأدب في مقالة بعنوان لماذا نقرأ الأدب: "تكمن إحدى منافع الأدب للشخص في المقام الأول عند اللغة، المجتمع الذي لا يملك أدبًا مكتوبًا يعبر عن نفسه بدقة أقل، وبشكل أقل وضوحًا من مجتمع يحمي طريقة التواصل الرئيسة له، وهي الكلمة، بتحسينها وتثبيتها عن طريق الأعمال الأدبية، لن تنتج أي إنسانية بلا قراءة ولا مصاحبة للأدب إلا ما هو أشبه بمجتمع صم وبكم وناقص الفهم، وذلك لعلته اللغوية؛ وسيعاني من مشكلات هائلة في التواصل نظرًا للغته البدائية، وهذا يقع على مستوى الأفراد أيضًا، فالشخص الذي لا يقرأ، أو يقرأ قليلًا، أو يقرأ كتبًا سيئة، سيتكون لديه عائق مع الوقت: ستجده يتحدث كثيرًا ولكن المفهوم قليل، لأن مفرداته ضعيفة في التعبير عن الذات". ويضيف: "صحيح أن قراءة الأدب مصدر للمتعة، ولكنه أيضًا مصدر لمعرفة أنفسنا وتكويننا عبر أفعالنا وأحلامنا وما نخاف منه بكل عيوبنا ونقائصنا، سواء كنا لوحدنا أو في خضم الجماعة، وسواء كانت تلك الملاحظات تبدو ظاهرة للعيان أو تقبع في أكثر تجاويف الوعي سرية". في قراءة الأدب وأعني القراءة اللصيقة بعين الباحث يتحقق شيء من الخُلطة التي هي في الأساس تشف عن تباين الطبائع واختلاف التصورات والأفهام وتفاوت البيئات، وأن ما تراه في محيطك وتعرفه وتُدلل عليه ليس بالضرورة هو الخيار الأمثل! لذلك كان من روافد نماء العقل وازدهار الفكر وسمو الهدف يعني مداومة النظر في أحوال الناس الكبير والصغير، العاقل والمجنون، الفطين والبليد؛ حتى تعرف النفس منزلتها، وإلى أين تمضي في الطريق كيلا يطأها الزمن، ومما تحترس وتحتاط!