تأخرت جائزة نوبل للآداب في الوصول الى الروائي البيروفي الكبير ماريو بارغاس يوسا، لكنها وصلت أخيراً مدرجة اسمه على لائحة الأدباء «الخالدين» التي كان سبقه إليها صديقه «اللدود» غابريل غارسيا ماركيز. إلا ان يوسا فاز بها في الرابعة والسبعين بحسب ما أعلنت أمس الأكاديمية السويدية، واصفة إياه ب «الأديب الملتزم» الذي «رسم خريطة السلطة» و «صمود الفرد وتمرّده وفشله». ولعل ماركيز الذي يناهز الثانية والثمانين الآن سيفرح حتماً لصديقه الذي أقدم مرة على لكمه على وجنته في الستينات بعد نقاش أعقب مشاهدتهما فيلماً في مكسيكو، وظل أثر اللكمة ظاهراً طوال سنين. لكن يوسّا ما لبث ان اعتذر من صديقه كاتباً إحدى أجمل المقدمات لرواية «مئة عام من العزلة» في إحدى طبعاتها الشعبية. كان لا بد لجائزة نوبل من أن تتوّج مسيرة بارغاس يوسا الروائية والسياسية أو النضالية بالأحرى. فهذا الكاتب الذي اغتاظ من جان بول سارتر عندما دعا كتّاب أميركا اللاتينية الى «كسر» أقلامهم والانخراط في النضال السياسي ضد الأنظمة الديكتاتورية، جعل من الفن الروائي مرآة للواقع المأسوي الذي عاشته الجماعات كما الأفراد، في عالم لا يخلو من الغرابة هو عالم أميركا اللاتينية الضاربة جذوره في عمق التاريخ والأسطورة في آن. ولم يكن انضمام يوسا المبكر الى الحزب الشيوعي وانخراطه في صفوف اليسار إلا ترسيخاً للمواقف المثالية والأفكار العالية التي كانت تساوره، لكنه عندما اصطدم بجدار الستالينية سرعان ما انسحب، ملتزماً الفكر اليساري الليبرالي. ولئن أعجب يوسا كثيراً بالثورة الكوبية وشخصية كاسترو في مطلع حياته الأدبية والنضالية، فهو ما لبث ان شعر بالخيبة إزاء الأعمال الشنيعة التي نجمت عن الثورة بعد تحوّلها الى مؤسسة. وانطلاقاً من هذا الإخفاق الثوري والإيديولوجي راح يوسا يشتق لنفسه سبيلاً، جامعاً بين الالتزام بمفهومه السارتري والحرية والعدالة. وقد التقت هذه العناصر في صميم عالمه الروائي، المرتكز الى الواقعية والمنفتح على المخيّلة والفانتازيا. ولعله في هذا المسلك لم يكن غريباً عن تيار «الواقعية السحرية» الذي هيمن على الرواية الأميركية اللاتينية، لكنه استطاع في الوقت نفسه ان يبني عالمه القائم على التخوم، تخوم الواقع والتاريخ، تخوم الالتزام والفانتازيا والتخييل. وقد ساعدته ثقافته الواسعة وقراءاته الشاملة على بلورة تجربته ومدّها بالنسغ الفكري أو الفلسفي، وبالعمق الوجداني أو الحدسي. فهو قرأ بنهم فلوبير وجوزف كونراد وفرجينيا وولف وهنري ميللر وتوماس مان وأندريه مالرو وسواهم. ولم يكن من المستغرب ان تُصنف أعماله ضمن «المدرسة الكلاسيكية المعاصرة»، فهو طمح فعلاً الى كتابة رواية شاملة تنصهر فيها الأنواع والتيارات والمواقف والرؤى... وعندما نشر يوسا روايته الأولى «المدينة والكلاب» في السادسة والعشرين من عمره استطاع ان يلفت النقاد والقراء، وقد لاحت في هذه الرواية معالم مشروعه الروائي الهادف الى استعادة صورة وطنه البيرو في تناقضاته الكثيرة، اجتماعياً وسياسياً. ثم توالت أعماله البديعة التي كان ينتظرها القراء في البيرو وفي أميركا اللاتينية، وقد بلغت حتى الآن نحو عشرين رواية، علاوة على الكتب الأخرى. واللافت ان يوسا لا يعتمد نموذجاً روائياً واحداً ولا مقاربة روائية واحدة، بل ان أجواءه متنوّعه ومتعددة، وتتراوح بين السرد الذاتي والتأريخ والمذكرات والفانتازيا والهجاء والحفر في الذاكرة الجماعية المجبولة بالأساطير والحقائق. وكان يوسا واحداً من الروائيين الكبار الذين كتبوا رواية «الديكتاتورية» في اميركا اللاتينية واستوحوا شخصية «الديكتاتور»، ولعل روايته «وليمة التيس» من اجمل الأعمال في هذا الميدان. ففي هذه الرواية يسترجع يوسا عبر ذاكرته وبعض الوثائق ومن خلال مخيلته الرهيبة شخصية الديكتاتور رافايل ليونيداس تروخللو الذي هيمن على جمهورية الدومينيكان قرابة ثلاثين سنة وجعل منها «ملكية» خاصة قبل ان يقتل العام 1961. في العام 1990 ترشح يوسا الى الانتخابات الرئاسية في البيرو لكنه مني بالفشل، وكانت خسارته تلك أشبه بالهزيمة التي حلت بالمثقفين والمناضلين الليبراليين في اميركا اللاتينية. ولم يلبث يوسا من ثم أن هاجر البيرو وحصل العام 1993 على الهوية الإسبانية التي وجد فيها منفذاً الى «المواطنية» الأوروبية. ظل ماريو بارغاس يوسا مثابراً على التزامه «الإنسانوي» وعلى يساريته المثالية، وانكب في السنوات الأخيرة على كتابة مقالات سياسية تناصر الأقليات والجماعات المضطهدة في العالم. وزار بغداد وكتب انطباعات بديعة حملت نظرة نقدية الى الحالة العراقية ما قبل الحرب وما بعدها.