تمتمتْ متسائلةً بأسى: هل نستطيع تجاوز أحزاننا وفقدنا بشكلٍ كامل؟ خطر ببالها هذا السؤال فجأة حين تذكرت كيف أصبح حال أختها بعد وفاة ابنها، إذ اعتذرت عن مرافقتها للمعرض الليلة، بالرغم من أنها كانت لا تفوت هكذا مناسبة. تذكرت أنها قد تتأخر عن موعدها، فأكملت تأنقها بسرعة. رأت أن مظهرها ملائم مع مناسبة الليلة، بزينتها البسيطة ومكياجها الهادئ وفستانها الأسود، حيث سيفتتح وزير الثقافة المعرض الدولي للفن التشكيلي في مدينتها، بعدما وصلتها دعوة لحضوره عن طريق صديقتها الفنانة التشكيلية مريم. درجت في المعرض بذهول، فما رأته فاق توقعاتها بالكامل، حشد كبير من البشر، ولوحات رائعة، ووجوهٌ ضاحكة، وجو من البهجة والجمال يسلب اللب. وقفت بها خُطاها أمام صفٍ من اللوحات ذات فكرة وطابع غريبين كما بدت لها منذ أول وهلة. تمعنت فيها بذهولٍ ممزوجٍ بالحيرة، متسائلةً: ماذا يقصد رسام هذه اللوحات بالضبط؟ اقتربت من اللوحة الأولى، رجل كامل يخطو للأمام. صارت عند اللوحة الثانية، الرجل حاضر فيها أيضاً بذات الهيئة غير أنه قد نقص منه جزء من منطقة الصدر، نظرت للوحة الثالثة بدهشةٍ متزايدةٍ، أيضاً الرجل هو هو لكنه في هذه اللوحة ينقص منه جزء أكبر عن ما هو موجود في اللوحتين السابقتين، وأخيرًا توقفت عند اللوحة الرابعة، وقد راعها منظر الرجل فيها، فقد بدا شبه إنسان برأس وبطن وساقين فقط. يا إلهي.. ما هذا؟! * لِمَ كان الرجل يتناقص مع كل انتقال بين لوحة والتي تليها؟ وكم منا مر بتلك الحالة، وكم بقي منه في النهاية؟ وكيف حال ما بقي منه؟ ضج رأسها بالعديد من الأسئلة أمام عمق ما أبدعته مخيلة ويد فنان مذهل. أخذت في البحث عنه في ردهة المعرض الواسع الذي رأت وكأنه بلا نهاية. أخيرًا وجدته بقامته الفارعة، ووجهه الحنطي الوسيم، وشعره الغجري المنسدل حتى كتفيه، في نقاش مع صحفيةٍ منبهرة برسوماته، وهما يحملان كأسي عصير، ويتخلل النقاش تبادل الضحكات تارةً والاندهاش من قبل الصحفية تارةً أخرى. وقفت جانبًا، مرخيةً سمعها علَّها تجد إجابات على تساؤلاتها تشفي غليل فضولها. ضجيج الحضور منعها من سماع حوارهما، لكن رأت ابتسامته تتقلص بالتدريج كلما اقترب من إحدى لوحاته وهو منهمك بالشرح للصحفية، حتى تبددت تمامًا عند آخر لوحةٍ، حيث تقوس فمه للأسفل ومن ثم زم شفتيه بأسى، وهو يخرج يديه من جيب بنطاله، قائلًا: هكذا تفعل بنا الحياة. فجأةً، جاءها اتصال هاتفي خرجت على إثره مسرعةً وهي تبكي.