للمكتبات مع أصحابها قصصٌ ومواقف، وأيضاً طرائف وأشجا. تستحق أن تروى، "الرياض" تزور مكتبات مجموعة من المثقفين، تستحث ذاكرة البدايات، وتتبع شغف جمع أثمن الممتلكات، ومراحل تكوين المكتبات.. في هذا الحوار الكُتبي نستضيف أ. د. حمزة بن قبلان المزيني أستاذ بجامعة الملك سعود "سابقاً" الذي تحتوي مكتبته الخاصة على أهم الكُتب العربية في النحو واللغة والأدب القديم، كما يوجد فيها كُتب متخصصة وأخرى متنوعة. في أيِّ مرحلة من العمر تعرَّفتَ على الكتاب؟ * هذه قصة طويلة ولا أتذكر تحديدًا متى بدأتْ، لكني أذكر أني كنت، وأنا في السنوات المبكرة من الدراسة الابتدائية، ألتقط قصاصات من الصحف التي كان يقرؤها رواد المقاهي في آبار علي، وهي متنزَّه لأهل المدينة. فكانوا يلقون الصحف بعد قراءتها فتحملها الرياح نحو مزارعنا شرقيّ آبار علي، وتَعلَق بقاياها فيما كان يسمى «الْحْظار» (من الحظر وهو المنْع) أو «الوشيع»، وهما يبنيان من جريد النخل أو أغصان السِّدر يحيطان بالزرع حماية له من الرياح والحيوانات.، فكنت إذا وجدت قصاصة من تلك القصاصات قرأتها! وأذكر أني حين كنت في السنة الثالثة أو الرابعة الابتدائية في مدرسة ذي الحليفة كان في المدرسة مكتبة صغيرة تحوي قصصاً للأطفال مكتوبة بحروف كبيرة ولا تتجاوز صفحات كل منها عشراً، فكنت أستعير كل يوم قصة أو قصتين وأعيدها في اليوم التالي لأستعير غيرها، أما في السنة الخامسة فبدأت «أَهَبُط» إلى المدينة، وهذا هو المصطلح المستعمل في الذهاب من مساكننا في ضاحية المدينة التي تسمى «البريقا» إلى داخل، وكنت أذهب إلى المكتبات القريبة من الحرم النبوي الشريف ومن أهمها مكتبة النمنكاني التي أشتري منها أحياناً بعض الكتب، لا سيما كتب السير الشعبية مثل الزير سالم والمياسة والمقداد وعنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن، وكنت أستعير كتاب تغريبة بني هلال من جارنا محمد عيد بن مقبول السراني، وكنت أقف دائماً على مكتبة ضياء في شارع العينية المشهور لأشتري أحياناً منها الصحف والمجلات، وكان من أشهر الصحف عكاظ والمدينة والقصيم، وكنت أستعير من قريبنا عبدالعزيز بن رباح المزيني بعض المجلات المصرية مثل المصور وآخر ساعة. ولما أنهيت الدراسة الابتدائية في مدرسة ذي الحليفة انتظمت أنا وأخي خلف -رحمه الله- في المدرسة الصناعية في شارع العنبرية داخل المدينةالمنورة، وكان أحد أبناء جيراننا واسمه عوض بن محمد يَدرس فيها كذلك، فاستعرت منه كتاب «جواهر الأدب»، وهو كتاب ضخم وقرأته. هل تستطيع تحديد بعض بدايات تأسيس مكتبتك المنزليَّة؟ * توسعت قراءاتي حين كنت في المرحلة المتوسطة ثم في الثانوية، وكانت مكتبة ثانوية طيبة غنية بمجموعة كبيرة من الكتب المتنوعة، ومما استعرته منها وقرأته تفسير الشيخ ابن سعدي، واستعرت منها عدداً من كتب العقاد ومصطفى صادق الرافعي الفكرية مثل: تحت راية القرآن والأدبية مثل أوراق الورد، وكونت في الوقت نفسه مكتبة تضم كتباً أدبية كثيرة مثل: كتاب الحيوان للجاحظ وكتاب المستظرف في كل شيء مستطرف، وغيرهما. وكنت أقرأ بعض المجلات المشهورة مثل: مجلة العربي والهلال والمنهل. وتركت تلك المكتبة في المدينةالمنورة بعد أن التحقت بجامعة الرياض، واستفاد منها أبناء أقاربي، أما في فترة الدراسة الجامعية فجمعت عدداً كبيراً من الكتب الأدبية من كتب تاريخية وأدبية وقصص ومسرحيات ودواوين شعر قديمة وحديثة. وتركت تلك المكتبة في عهدة أخي خلف -رحمه الله-، حين ابتُعثت؛ ولما عدت من البعثة استعدت بعضاً منها لتكون نواة مكتبتي الحالية، وجمعت حين كنت في البعثة كثيراً من مصادر الدراسة اللسانية، إضافة إلى كثير من الكتب الفكرية والأدبية بالإنجليزية، وأحضرتُها من أميركا في «كراتين» كثيرة طافت البحار والصحاري لأشهُر حتى وصلت إليّ. ماذا عن معارض الكُتب، ودورها في إثراء مكتبتك؟ * معارض الكتب أهم المصادر التي كوَّنت منها مكتبتي الحالية، وأهم تلك المعارض معرض الرياض الدولي للكتاب الذي اقتنيت منه أكثر الكتب الكلاسيكية العربية. حدثنا عن أوائل الكُتب التي دخلت مكتبتك. * كما قدمت، منها بعض كتب الجاحظ وغيرها من الكتب الأدبية والتاريخية والدينية المتنوعة، أما في البعثة فكنت مبتعثاً لدراسة «اللهجات العربية» في جامعة لندن «كلية الدراسات الإفريقية والآسيوية»، ولم يكن هناك دراسة منتظمة فيها، وكنت أقضي الساعات في المكتبة أقرأ على غير هدى، لكني اكتشفت أن كثيراً مما كنت أقرأه يذكر اسم نعوم تشومسكي لا سيما كتابه بالاشتراك مع زميله مورس هالي بعنوان The Sound Pattern of English، فقررت أن أشتريه فذهبت إلى مكتبة قريبة من الكلية واشتريته وبدأت في قراءته، ولفتت انتباهي وأغرتني مقدمة الكتاب النظرية التي تبشر بدراسة مختلفة للغة، واستمتعت بقراءة تلك المقدمة لكني حين بدأت في قراءة الفصول التالية وجدتني لا أفهم شيئًا، وخطر لي عندها أن هذا ما يجب أن أدرسه وهو ما لا يتوفر في قسم الشرق الأوسط الذي انتظمت فيه، فقررت منذ ذلك الحين تحويل بعثتي إلى أميركا لأدرس اللسانيات على أصولها، وهذا ما حدث بعد سنة. هل تحتفظ في مكتبتك بمخطوطات؟ * لا أحتفظ في مكتبتي بمخطوطات لأن تخصصي بعيد عن تحقيق النصوص. ماذا عن نصيب الكُتب القديمة والنَّادرة؟ * تحوي مكتبتي أهم الكتب العربية في النحو واللغة والأدب القديم، ولما عدت من البعثة كنت في زيارة لمدينة الطائف وزرت مكتبة «المؤيد»، إن لم تخني الذاكرة واشتريت منها عدداً من المصادر العربية القديمة بتحقيق بعض المستشرقين في القرن التاسع عشر، وهي من مصورات مكتبة خياط اللبنانية، ومن أهم تلك الكتب «تاريخ الطبري» في 15 مجلداً، و»التنبيه والإشراف»، و»كتاب النقائض»، و»الشعر والشعراء لابن قتيبة»، و»مقدمة ابن خلدون»، وكلها مجلدة تجليداً قويًّا فاخراً. هل لديك شيءٌ من الصُّحف والمجلات القديمة أو شبه القديمة؟ * كانت والدتي -رحمها الله- تجمع الصحف التي قرأتها بعد أن يكثر عددها في «عمامة!» وتحملها على رأسها وتذهب بها بعيدًا عن البيوت وتحرقها لأن تلك الجرائد تضيِّق من مساحة بيتنا الضيِّق أساساً! وكان بعض الجيران يخوفونها من «مغبة» إدماني القراءة، فكانت تحرق الصحف «حماية» لي من شرور القراءة! وأظنني ورثت ممارسة أمي العزيزة؛ فأنا أتخلص من الصحف والمجلات بعد قراءتها مباشرة باستثناء عدد قليل منها يرتبط بحدث أو مناسبة. حدثنا عن نتاجك الأدبي ومشاركاتك الثقافية؟ * كما تعرف، فأنا متخصص في اللسانيات وهي بعيدة عن «الأدب»، وليس لي نتاج أدبي إلا سيرتي الذاتية التي نُشرت مؤخرًا بعنوان «واستقرت بها النوى»، وفازت بجائزة الدكتور غازي القصيبي في دورتها الأولى لعام 2022م. وكنت ألقيت عدداً من المحاضرات في بعض النوادي الأدبية وبعض الندوات الخاصة في الرياض والمنطقة الشرقية وغيرهما، وشاركت بمشاركات «ثقافية» تتمثل في كتابة مقالات كثيرة في موضوعات كثيرة في صحف الرياض والوطن والشرق، وكذلك الشرق الأوسط. ما أطرف العناوين الموجودة في مكتبك؟ * أكثر ما تضمه مكتبتي من النوع الجاد، وما أبعد الطرافة عن تلك. بما أنك مُهتم بالكُتب ولديك مكتبة خاصة، ما أبرز الكُتب التي تحرص على قراءتها؟ * لا أتحيَّز لنوع من الكتب ضد أنواع أخرى منها؛ فأنا أقتني الكتب لِما أراه أو أتمنى أن أراه فيها. هل ساعدتك المكتبة الخاصة بك على التأليف؟ * لا غنى للباحث عن وجود مكتبة في متناول يده، والمكتبة المنزلية إحدى الوسائل الضرورية، وكذلك مكتبات الجامعات. وأنا محظوظ، وكذلك الباحثون الآخرون، أننا نعيش في هذا العصر الذي صار الحصول على الكتاب أو المعلومة رهن إشارة بسيطة من خلال وسائل التواصل السريعة. كم بلغ عدد مؤلفاتك حتى الآن؟ ومتى صدر أول كتاب؟ وما هو؟ * لديّ اثنا عشر مؤلفاً منشوراً، إضافة إلى بعض الكتب التي ما تزال رهن الترتيبات الأخيرة، كما أن لديّ أكثر من سبعة عشر كتاباً مترجماً في اللسانيات والفكر وغيرهما. هل تستفيد أسرتك من مكتبتك في الاطلاع وإعداد البحوث؟ * تخصَّصَ أبنائي في تخصصات طبية أو إدارية، ومحتويات مكتبتي لا تتناسب مع تخصصاتهم، ومع هذا فبعضهم «يختلس» النظر إلى بعض تلك المحتويات! هل يوجد من قراءاتك كُتب لا تزال عالقة في الذهن؟ وما أسلوب الكاتب الذي يعجبك؟ * وما أكثرها، لكن الوقت محدود، ولا يمكن تحديد مواصفات للأساليب إلا الأساسي منها وتتمثل في الصحة اللغوية والنحوية والبراعة في استخدام اللغة. ماذا تُفضل.. المكتبة الورقية أو الرقمية؟ وما السبب؟ * نشأت على المكتبة الورقية؛ وأنا محظوظ، كما قدمت، بأن أعيش الآن في عصر المكتبة الرقمية التي تَظهر أهميتها في السَّفر وحين تريد معلومة لا تتوفر في مكتبتك الخاصة ولا في مكتبات الجامعات القريبة منك. هل مكتبتك متخصصة أم متنوّعة؟ * فيها كتب متخصصة وكتب أخرى متنوعة. هل تقتني الكتاب من خلال توصيات أو بانتقاء شخصي؟ * أحاول الحصول على الكتب باللغة «الإنجليزية» خاصة في أكثر الأحيان بسبب قراءتي للمراجعات التي تُكتب عنها، وفنُّ كتابة المراجعات في العالم العربي ضعيف إلى الآن ولا يمكن الركون دائماً إلى ما يكتب عن كثير من الكتب، لكنَّ حبي للاستطلاع وراء اقتنائي لكثير من الكتب. ما رسالتُك التي توجِّهها لكلِّ من يملك مكتبة خاصَّة؟ * من يملك مكتبة خاصة ليس بحاجة إلى أي رسالة مني أو من غيري، فامتلاكه مكتبة يدل على وعيه، كما أني لا أحب التطفل على خيارات أحد. كلمة أخيرة: * شكراً لكم على اهتمامكم.