يستمد فن الخطاب قوة شديدة التأثير للوصول إلى وجدان الآخرين في سهولة ويسر ودون عناء من تلك القوة شديدة الوجدانية، التي تنبع من الذات المرسلة أو المبدعة من ظروف وجودنا نفسه..إن منهج البعد الخامس هو منهج جديد في اتخاذ خطاب ممتع وجاذب للجمع الكلي من المتلقين وفي عمقه ذلك التأثير المطلوب من اتخاذ القرار والتحفيز عليه.. لقد سبق وأن طرحنا ما طرحناه في نظرية البعد الخامس والتي أنتجناها عام 2000م ثم نشرت في كتاب عام 2009م؛ وكانت تُعنى بمدى التأثير في المتلقي تأثيراً جماهيرياً؛ ثم طبقناها على الرسالة المسرحية؛ إلا أنها في مجملها قد لا تعني بالمتلقي المسرحي فحسب وإنما تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك وهو الخطاب بمجمله وكيفية أثره في جموع الجماهير. مهما تنوع مفهوم الخطاب، وهذا يعتبر منهجاً جديداً في أساليب الخطاب وخاصة إذا ما كان الخطاب جماهيرياً الغرض منه الحشد باتجاه اتخاذ القرار. فنظرية البعد الخامس تطورت لدينا إلى ما وراء الخطاب المسرحي الذي مرامه هو حشد المتلقي باتجاه اتخاذ القرار. فإذا كنا قد اتخذنا الخطاب أو الرسالة المسرحية أنموذجاً فهذا يعني أن ذلك يمتد إلى كل خطاب لجماعة ما بغرض التأثير فيهم نحو إعمال العقل والبعد عن الاندماج الكلي في محتوى الرسالة، وجعل الرسالة ذات تأثير جماعي في المتلقين. ومن آليات هذا الخطاب الاتكاء على ثلاث محاور مهمة وهي (العقيدة، السرد، وإثارة الخيال). والبعد الخامس إذا ما تجاوزنا الأبعاد الأربعة (الطول والعرض والمنظور والإيقاع) وهي أبعاد معروفة في الصورة الكلية التي تبدأ من الفن التشكيلي فسنجده في العاطفة والوجدان وبناء عليه وجدنا أن البعد الخامس يكمن فيما يسمى بالوجدان وهو مكمن العاطفة؛ وإلى أن نصل إلى هذا الوجدان بهذا الخطاب فسوف نتصل بوظيفة من وظائف المخ البشري إذ إن الوجدان هو ما نطلق عليه قلب المخ وقد أسماه علماء التشريح ب(الأميجدلي أو الأميجدالا) وهو فص في الرأس يعمل على إفراز مادة الدوبامين كما ذكره علماء طب المخ والأعصاب وعلماء النفس. كل هذه المسميات العلمية تقودنا إلى سؤال مهم وهو: كيف نخرج وظيفة هذه الأميجدالا من مجالها العلمي في الطب البشري والاستفادة منها في مجال الأدب وعلم الخطاب والتأثير في المتلقي عبر هذه المحاور الثلاثة المذكورة سلفاً في جعل المتلقي يشعر بها تأثيراً مباشراً وهي المتعة في التلقي وهذه أولى درجات الجذب في تقلب الوجدان نحو ما يسمى ب(اللذة) هذه اللذة هي ما تتسرب في الوجدان عن طريق ما يسمى ب(التسرب الانفعالي). ومن ملاحظاتنا في رحلتنا تلك نحو الوصول للوجدان ومحاولة الانزلاق فيه وجدنا أن الفلاسفة المسلمين مثل الفارابي وغيرهم قد أسموها ب(المتخيلة أو الحافظة) والتي يقود إليها هو السرد وإثارة الخيال في الخطاب. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى وجدنا أن للعقيدة دوراً كبيراً في اتخاذها وسيلة مهمة في الدخول للوجدان والتسرب إليه. فإذا ما نظرنا للإنسان أو حتى علوم الأنسنة فسنجد أن الإنسان البدائي قد فطر على العقيدة فالإيمان بهذه العقائد في تاريخ البشرية له أثره الواضح في الوجدان مهما تنوعت الرسائل؛ فقد وجدنا أن الإنسان البدائي ومراجعة فنونه والنقش على الكهوف وجدنا عاملين مهمين وهما الرسوم مسطحة والمحتوى عقائدي وعلى سبيل المثال أن الإنسان البدائي يرسم على كهفه -قبل خروجه للصيد- الثور وقد طعنه بآلته اعتقاداً منه أنه قد أحدث أثر القتل لصيده قبل أن يشرع بصيده ثم لا يكتفي بهذا الرسم المسطح وإنما يجمع جماعته في ليلة بعد عودته غانماً بصيده في حلقة متخذاً فن السرد وإن كان بشكل تمثيلي قبل صدور اللغة وبهذا السرد يشرح لهم عن كيفية هزيمته لفريسته حتى يصل لكل مشاهديه شعور بالمتعة وهي متعة غريزة الانتصار! ومن هنا يكتمل المسطح بالسرد المدعوم بالعقيدة مشكلاً صورة ذهنية كاملة الأبعاد عن طريق البعد الخامس الذي هو تشكيل الوجدان. الشيء الذي نشير إليه الآن مجموع المذاهب المنطقية العقلانية هو أنه توجد طريقة حسية للتفكير، وهي عملية عقلية تبلغ ذروة كفايتها في فن الخطاب. كل هذه العمليات لا نعفيها من الوجدان الذي له دوره الفعال في هذه العملية حين يقول "روجرفراي": "أعتقد أنه لا يوجد في الفن خاصية مؤثرة وهي ليست مجرد اعتراف بالنظام والعلاقات الداخلية؛ إذ يصبغ كل جزء من أجزاء العمل الفني ككل بنغمة وجدانية معينة لا ترجع إلى نوع من أنواع التذكر المعروفة أو الإيحاء بالتجربة الوجدانية للحياة، بل إنني أتساءل أحياناً، إنها رغم ذلك قد لا تكون قد حصلت على قوتها من إدارة بعض الذكريات واسعة التعميم شديدة الغموض كبيرة العمق. إن الأمر ليبدو كما لو كان الفن اقترب من الإحساس الذي تقوم عليه كل ألوان الحياة الوجدانية". ومن هنا يستمد فن الخطاب قوة شديدة التأثير للوصول إلى وجدان الآخرين في سهولة ويسر ودون عناء من تلك القوة شديدة الوجدانية، التي تنبع من الذات المرسلة أو المبدعة من ظروف وجودنا نفسه. ثم يقول الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين: "يثمر السماع حالة في القلب؛ تسمى الوجد، ويثمر الوجد تحريك الأطراف، إما بحركة غير موزونة، فتسمى الإطراب، وإما موزونة، فتسمى التصفيق والرقص". وهو ما قد تناولناه باستفاضة في كتابنا "اللذة والكدر". وفي ضوء هذا الموجز البسيط نستطيع القول إن منهج البعد الخامس هو منهج جديد في اتخاذ خطاب ممتع وجاذب للجمع الكلي من المتلقين وفي عمقه ذلك التأثير المطلوب من اتخاذ القرار والتحفيز عليه.