النقد هو العامل المعرفي والعدو للغربة، كما أن الأنس صانع الحضارات والتقدم في شتى المجالات، وبالتالي كان لزاماً علينا البحث عن الأنس عبر خطاب مستأنس، وللنقد باعه الأول في هذا الشأن إن انتقال النقد من المفهوم الجمالي المعهود إلى كونه علماً من العلوم جعل المفاهيم النقدية العربية -وتعدد "أبستيمولوجيا"- النقد في حيرة، وذلك يرجع إلى تدفق العديد من النظريات خصوصاً في النقد الحديث، ففريق يعتنق هذه النظريات الحديثة وفريق يقف ضدها كونها غريبة وشاذة عن القيم العربية ومعتقداتها ولغتها وأغراضها أيضاً. فالفن نطاق من نظريات وأسس تكونت عبر التاريخ الإنساني نتيجة تطور المعارف الإنسانية والعلوم المختلفة التي كانت تساعد الناقد وتقدم له يد العون حتى يكون تقييم الناقد للعمل الفني تقييماً موضوعياً عادلاً قائماً على معيار نقدي لا دخل فيه للنزعات الشخصية أو معارف تتأرجح بين نظريات عربية وغربية غير مستنبتة من تربة عربية تعمل على استئناس الوجدان الذي هو مقصد الرسالة الفنية برمتها. ومع هذا الكم من تدفق النظريات التي جعلت الفن يقف بين نزعات القديم والحديث، وبين النزاعات الفردية، مما يسبب هذا الصخب وعدم الرضا على مستوى الشرائح العامة حتى يصبح الأمر ظاهرة تؤثر بدورها في البنية الاجتماعية. وإن بحثنا عن هذا الخلل وهذا الاضطراب التذوقي على الساحة الفنية، فنجد ذلك يرجع إلى عجز الناقد عن تحقيق وجوده الأصيل بوصفه ناقداً عربياً ينتمي إلى ثقافة مازالت لها خصوصيتها التاريخية والحضارية ولم تفتتها قيم ومعايير النظام العالمي الجديد، كما أن نزعات التمرد التذوقي على النقاد والجرأة على أفكارهم وعدم إفساح المجال لهم، أدت بدورها إلى اهتزاز الرأي النقدي المتخصص وعدم الثقة فيه، وربما كان ذلك لانتشار النقد الذاتي والانطباعي أو النقد الصحافي -إن جاز التعبير- وهذه هي الغربة الثقافية الجامحة المؤدية إلى هذا الصخب والتذمر. فالنقد هو العامل المعرفي والعدو للغربة، كما أن الأنس صانع الحضارات والتقدم في شتى المجالات، وبالتالي كان لزاماً علينا البحث عن الأنس عبر خطاب مستأنس، وللنقد باعه الأول في هذا الشأن. فإذا كان معنى النقد في اللغة العربية هو التميز بين جيد العملة "فضية أو ذهبية" وبين زائفها، فهذا يستلزم من الناقد الخبرة والفكر"المعيار النقدي على أسس معيارية" ثم الحكم. وهذا هو المعنى القريب من الأصل الاشتقاقي لكلمة نقد في اللغة العربية؛ فالنقد بالإضافة لكونه علم من العلوم الإنسانية إلا أنه أيضاً "ملكة من ملكات الآذان"، فالإنسان فطر على الحكم على ما يقع أمامه من الأشياء، وتفضيلات الأطفال أحسن نموذج على ذلك، لكن هذا الحكم كثيراً ما يفتقد العلة والتبرير للتفضيلات وهو ما يمكن تسميته "النقد الساذج"، ولكي يعرف الإنسان السبب وراء تفضيلاته يجب أن تكون لديه الخبرة والمعرفة الأصيلة بقواعد وأسس اختيار الجيد من الرديء. وهذا ما نجده في الساحة الفنية في عالمنا الثقافي المعاصر، إذ أصبح مجرد رأي فقط. والمعرفة الشاملة هي إحدى ركائز الناقد، فإذا ولجنا إلى أغوار المعرفة -هذه الكلمة التي حيرت العلماء والباحثين عبر العصور- نجدها تأخذ مناحي عديدة -فلسفية وعلمية- تجعلها جوهرية تحمل في ثناياها خلاصة المجتمعات البشرية الآتية من عمق التاريخ في ديمومة بحثية لا تنتهي، ولذلك فالفلسفة تشغل حيزاً كبيراً من أدوات الناقد، "فالمطابع مغازل والباحثون ديدان قز، فاحذر أن تتعقد حولك خيوط الحرير". وهذه مشكلة من مشكلات النقد الحديث، فعندما نتحدث عن الناقد ودوره في العملية الإبداعية، فإننا نتحدث عن عصب مهم في مهمة المبدع وبالتالي أثره على المتلقي ثم المجتمع حتى يصل الأمر إلى الفرد الواحد داخل البنية الاجتماعية، وهو المنوط بتقويمها أو اعوجاجها وهو حمل كبير بكل المقاييس. فالناقد هو تلك القناة التي يتم من خلالها فهم وتوصيل الرسالة، ثم صياغة الوجدان الجمعي في نهاية الأمر، إذا ما سلّمنا أن العمل الإبداعي رسالة من مرسل إلى متلقٍ، والناقد هو ذلك الوسيط الذي يتناول بالتحليل والتفسير لكي تصل الرسالة المنشودة، وبالتالي رفض كل ما هو رديء وبدون تعالي الفكر النخبوي المتلقى العادي دون أن نمسك بتلابيب القديم المعهود، فيوصم بالرجعية والجهل وقليل الخبرة أو الجنوح إلى لغة نقدية تجهد الهنية المتلقية في فك طلاسمها. حين يتنافس النقاد في استصدار مصطلحات نقدية تحتاج إلى معاجم نقدية حذراً منهم أن يوصموا بتلك السمة. ولا ننكر أنه تحت تأثير التقدم العلمي في حقل الفيزياء بصفة خاصة، أصبح النقد "أبستمولوجيا" في قرننا هذا، أي أنه أصبح خطاباً حول أسس الخطاب العلمي نفسه كما مع الفرنسي "غاستون باشلار". فيشهد زماننا الحالي هجوماً مركزاً على المسلمات التي كانت ترتكز عليها المعرفة كبراءة العلم وسلطة العقل ومركزيته، ويكفي أن نذكر في هذا المضمار عمل الألماني "يوجيني هاربر"، والفرنسيين "ميشال فوكو وجاك درايدا وهيليس ميلر، وبوب دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم ولويس جولدمان وبارت" وغيرهم: إن العلوم الإنسانية من اقتصاد وألسنة وتحليل نفس قد زعزعت الثقة بالصرح الإنساني. ومن هنا كانت الصعوبة القصوى في الحديث عن أية نظريات -في الشعر والفن بصفة عامة والمسرح بصفة خاصة- تبدو الآن وكأنها فقدت البوصلة التي تستطيع أن ترشد إلى الاتجاه الذي تسير فيه، إذ تخلخلت الأسس التي تقوم عليها يقينية المعيار النقدي. ومن هنا كان البحث أو قل السباحة عبر أمواج ودهاليز النظريات النقدية مقترناً بالفلسفة منذ النقد التذوقي في فنون ما قبل الميلاد ومنذ بداية علم الكلام وتجليات الخطاب أيضاً، وحتى أحدث المدارس النقدية والأدبية ومنظروها حيث التفكيكية ونظريات السرد ونظرية الكوانتم للوصول إلى حل لغز تلك الغربة التي يحياها الناقد والمبدع وبالتالي غربة الفرد عن واقعه في ضوء هذا القلق الدائم، فغربة المتلقي عن ثقافته تحمله إلى غربته عن الواقع وتنشأ ثقافة الانسحاب. وللبحث عن الأنس الذي افتقده ليس مبدعونا ونقادنا فقط، وإنما كل فرد يحيا في عالمنا جراء التأثر بثقافات وافدة قسراً في هذا العالم الجديد جراء هذا القلق، مع أننا مع الأخذ بتلابيب كل جديد في عالم النقد والثقافة -حالها حال سائر العلوم والفنون- ولسنا من دعاة الانكفاء على الذات، ولكن بذلك الوعي المرتبط بالأنس الدائم النابع من ثقافة نبتت في تربة مرتبطة بجينات الفرد وتكوينه دون غربة أو اغتراب.