استفاد الناس قديمًا من الحصان كوسيلة نقل أعطت ثمارها في حينها، ولا تزال في بعض المناطق. ومع مرور الزمن طُورت هذه الوسيلة بإضافة بعض المحسنات بدءًا من اختراع العجلات والعربة، ومرورًا بابتكار حافلة تجرها الخيول، ثم الانتقال إلى مرحلة المحركات باختلاف نوع الوقود المستخدم، ووصولاً إلى ما آل إليه الحال من صناعة السيارات ووسائل النقل العام. والسؤال هنا: أين ذهب الحصان؟ لم يكن الحصان هدفًا بذاته حتى يكون جزءًا من رحلة التحول في صناعة النقل، بل كان من المصلحة إعادة النظر في نموذج العمل وتطويره بحسب المعطيات المتاحة في كل مرحلة من مراحل التطوير؛ الأمر ذاته ينطبق على المبتغى الأسمى من رحلة التحول الرقمي إن أردنا لأعمالنا وجهودنا أن تكلل بالنجاح بعد - مشيئة الله -. وامتدادًا لتطورات صناعة النقل، يعد أوبر (Uber) أنموذجًا في التحول الرقمي، إذ تم بناء نموذج عمل فريد من نوعه في عالم النقل الخاص، لم تكن سيارات الأجرة أو حتى السائقين جزءا ثابتا في رحلة التحول، بل تغيرت أشكالها، فلم تعد الشركة تتحمل أعباءها المادية، وجعلت جل تركيزها في تنظيم عملية النقل، وضبط أدائها، وإقناع كل طرف بجدواها من خلال المزايا التي تتبناها الشركة، كالسهولة والتوافرية وانخفاض التكلفة مقارنة بالنقل الخاص التقليدي، بلا شك، الأمر لم يكن برمته سهل، بل واجهت الشركة تحديات عدة في طريقها! على سبيل المثال، بناء الثقة كان تحديًا كبيرًا يتطلب جهدًا في التسويق والوعي وإضافة بعض الأدوات التي ترفع من مستوى الإحساس بالأمان والمصداقية لدى العميل، تتواجد أوبر اليوم في أكثر من 900 مدينة حول العالم لتخدم نحو 120 مليونًا من العملاء و5 ملايين من السائقين! التحديات لدى أوبر لا تزال قائمة ومستمرة لإدارة وضبط أكثر من 17 مليون رحلة يوميًا، بل يجب عليها أن تستمر في رحلتها للتحول الرقمي والاستجابة للمتغيرات وإلا أصبحت من الماضي الجميل! إير بي إن بي (Airbnb)، نموذج آخر للتحول الرقمي في مجال الفندقة والسياحة، حيث يتيح لمن يرغب في عرض مسكنه أو جزء منه للإيجار دون الحاجة إلى عناء تأسيس شركة مكتملة الأركان، أو جمع رأس مال، وبالمقابل يتيح للمستأجر خيارات عدة في 100 ألف مدينة، ضمن أكثر من 220 دولة حول العالم، وبأسعار منافسة! فكرة أخرى للتخلص من أعباء مالية مقابل جني أرباح كبيرة. وكسابقها، واجهت الشركة، ولا تزال، عددًا من التحديات كالأمان، والمصداقية فيما يعرض مقارنة بالواقع، وأيضًا الإتاحة القانونية لممارسة هذا النوع من الأعمال في بعض البلدان. هذه الأمثلة قائمة على نموذج أعمال تحت ما يسمى ب «الاقتصاد التشاركي»، وهو نظام اقتصادي يقوم على مشاركة الأصول البشرية والمادية مقابل مشاركة الأرباح. فأوبر مثلًا يشارك السائقين في الاستفادة من الأصول (السيارة والسائق) مقابل توفير العميل المناسب، والاثنان يتشاركان العوائد المادية، صحيح أن هذا النظام الاقتصادي معمول به منذ مئات السنين، إلا أنه اليوم يوجد في أشكال جديدة مع بزوغ فجر الثورة التقنية والتحول الرقمي. يوجد اليوم مئات، بل وربما آلاف، الشركات التي حذت هذا المنهج في تقديم خدماتها، وعلى الصعيد الوطني فهناك نماذج ناجحة مثل مرسول، وجاهز، ونون أكاديمي، ونعناع، وغيرها، استفادت من هذا النظام الاقتصادي المرن في إحداث تحول رقمي لقطاعات الأعمال. على النقيض من ذلك، المؤسسات التعليمية التي صرفت جهودًا وأمولًا في رقمنة المناهج الدراسية وأتمتة العمليات ثم توقفت إلى هذا الحد، لم تحقق في الواقع العائد الأمثل من التحول الرقمي، بل واجهت تحديات جديدة في العملية التعليمية كان على إثرها ظاهرة «الفاقد التعليمي» في زمن جائحة كوفيد-19 والتي عانت منها المجتمعات والأفراد في أنحاء العالم. يرى خايمي سافيدرا، المدير العالمي للتعليم بالبنك الدولي، أن فقدان التعلم الذي يعاني منه العديد من الطلاب بسبب الجائحة أمر غير مقبول أخلاقياً، وسيكون له تأثير مستقبلي مدمر على حياتهم وأسرهم، بل على اقتصادات العالم أجمع! كما أظهر تحليل قامت به ماكنزي أن تأثير الوباء على تعلم الطلاب في مراحل التعليم العام كان كبيرًا، حيث جعلهم متأخرين بمعدل 5 أشهر في الرياضيات و4 أشهر في القراءة بنهاية العام الدراسي السابق. ويرى روبرت جينكينز، مدير التعليم في اليونيسف، أن الحلول الرقمية الحالية للعملية التعليمية غير كافية، بل يجب أن نعيد فتح المدارس وبذل الجهود للتعافي من الفاقد التعليمي، وتؤكد ستيفانيا جيانيني، مساعدة المدير العام لليونسكو للتعليم، أن الجائحة أعطت للعالم دروسًا قيمة، وعلى المؤسسات التعليمية الاستفادة منها ومن دعم الحكومات والقيادات في إعادة بناء أنظمة تعليمية تتسم بالمرونة والكفاءة، الأمر لا ينحصر على الدول ذات الموارد المحدودة، فقد أوضحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تقرير نشرته عن الآثار الاقتصادية جراء الفاقد التعليمي، أن الضرر التعليمي والاقتصادي عام حول العالم بما فيها دول مجموعة العشرين! أخيرًا، على من أراد إحداث تحول رقمي حقيقي عليه أن يتمسك بأهدافه ويعيد النظر في وسائله. فإذا كان الهدف تقديم خدمة صحية أو تعليمية أو صناعية أو في أي مجال من قطاعات الأعمال والخدمات، فالسؤال المطروح هنا: كيف يمكن أن نستفيد من التقنيات الحديثة في تقديم هذه الخدمة بشكل أفضل؟ حينها سنعيد النظر في المنظومة بأكملها، وصياغة مكوناتها بما يتناسب مع هذا التحول! *مستشار في الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي