تحرص الأديان السماوية جمعاء على تنشئة الأبناء ورعايتهم رعاية شاملة تقوم على الصلاح والرشد والتقوى والاستقامة وحسن التربية، وتؤسس لمجتمع فاعل متكافل يقوم على بناء الكيان القويم المتماسك، والإسلام بدوره أسهم بحيز كبير في التوجيه نحو الاهتمام بقضايا رعاية الأبناء وتنشئتهم التنشئة المثلى التي تليق برسالة الاستخلاف التي تحتّم على الجيل العمل من أجل نشر الخير والفضيلة وإنقاذ البشريّة من غياهب الضّلال ومتاهات الضياع. ولنا في قرآننا المجيد وفي آياته الكريمة خير شاهد من أصول التوجيه والتهذيب والتربية وأساليبها وثمراتها، ومن ذلك على سبيل المثال ما حوته آياته في قصة إبراهيم الخليل عليه السّلام وابتلاء الله له باختيار ابنه وفلذة كبده (إسماعيل) قربانًا له، وكيف أن ذلك الابن البار المطيع أسلم نفسه مستسلمًا منقادًا لأمر أبيه ملبيًا خاضعًا لإرادة ربه مناديًا بصوت يغمره الخضوع والاستكانة لأبيه: «قال يا أبت افعل ما تؤمر ۖ ستجدني إن شاء اللّه من الصّابرين» الصافات: 102 بيد أن الإرادة الإلهية العليا تأبى إلا أن تضع البلسم الشافي على هذا القلب المفجوع ليأتي الشفاء وتزول الفاجعة في قول رب العالمين: «وفديناه بذبح عظيم» الصافات: 107 جزاء إيمانهما وإخلاصهما وخضوعهما وصدق ما كانا عليه. وقد رسم الإسلام بتشريعاته وآدابه سلوكيات متكاملة ومنهجيّات شاملة تحضّ على رعاية الأبناء وتنميتهم بأحسن ما يكون عليه المجتمع، لتضمن حال تنفيذها تنفيذًا سليمًا نقيًّا خالصًا لأفضل المخرجات وأميزها وأصلحها إلهامًا وعطاءً وإسهامًا. لقد شرع الإسلام بعدالته السمحة أحكامًا خاصة بكل مكون يقع ضمن محيط الأسرة والمجتمع وما يتعلق بهما، ومن ذلك أنّ لكل فردٍ حقوقًا يستحقها بوجوده ومكانته وارتباطاته، فحقوقه مضمونة صيغت في الكتاب المجيد المنزل من عند الله على نبيه عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة والسلام، أو اشتملتها سنّة الرسول الكريم لتبيّن للناس عدل الإسلام وتكفله بإيتاء الحقوق واستيفائها، كما ضمن الحقوق ونظمها، وحدّد الواجبات اللازمة والواجبة على الأفراد ذواتهم، ليسعى كل فرد بأداء واجباته تجاه الآخرين، فتتحقّق العدالة والنظام اللّذين يقوم عليهما المجتمع والأسرة، وممّا اشتمله الإسلام في نظامه وتشريعاته حقوق الآباء على أبنائهم وحرصه على سلامة العلاقة بينهم، وواجبات الآباء تجاه أبنائهم وسلامة توجيههم وتنشئتهم. ومن الواجبات التي خصّ الإسلام بها الأبناء من آبائهم على سبيل المثال حسن اختيار الزوجة التي ستصبح أمًّا يقع على عاتقها تربية الأبناء، فإن صلحت الأمّ صلح الأبناء وحسنت تربيتهم وتنشئتهم، كما أن من واجبات الأب نحو أبنائه حسن اختيار أمّهم بما يحقّق لهم الخير والفضل ويجنّبهم العار والسّخرية وسوء الحديث، وفي ذلك قول الرّسول عليه الصّلاة والسّلام: «تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين». كذلك حسن اختيار الاسم إذ من حقوق الأبناء أن يحسن الآباء اختيار أسمائهم؛ فيسمّي الوالد ولده بما يليق ويحمد، ليكون اسمه مبعث فخر ورفعة وكرامة، فلا يسميه باسم خارج عن المألوف أو بما لا يصحّ معناه ولا ما يكون دافعًا لذكره بسوءٍ أو سخرية مما ينْزل من شأنه ويحط من قدره. كذلك على الأب أن يكون أسوة وقدوة حسنة لأبنائه وأن يدلهم على سبل الخير والهداية وما عليهم أن يجتنبوه من طرق الشّر والغواية، وأن يعينهم على طاعته فلا يكلّفهم بما لا يحتملون ولا يحملهم بما لا يطيقون فيستدعي ذلك حيرة الأبناء فإما أن يرضخوا على مضض وإما يعصوه فيكون في ذلك عقوق وخروج عن طاعة الأب، فالواجب على الآباء توجيه الأبناء بما فيه طاعة الله تعالى، وإعانتهم على أعمال الخير والبر، فلا يكون منها التّحريض على المعاصي والمحرّمات، كالعقوق وقطع الرّحم وحبس الصّدقة وأشكال العنف والظّلم في الميراث. كما أن المساواة بين الأبناء مطلبٌ ضروريٌّ يتحقّق به العدل والبرّ والإحسان، وقد نهى نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه عن التمييز بين الأبناء والتفضيل بينهم في الهبات والعطايا والمعاملة، كذلك الحث على إعانتهم على اختيار زوجاتهم، فإذا بلغ الابن الرشد ورغب الزّواج سعى والده لتزويجه إعانة له على بناء أسرته وتكوين حياته وحفظًا له من الزيغ والغي والانحراف. وعندما نتأمل في قرآننا المجيد كلام رب العالمين ونتدبر آياته، نجد معلومة رائعة تتجلى لنا فيها عظمة القرآن الكريم وبلاغته وروعته وجمال اللغة العربية فيه والتي نزل فيها آخر أعظم وأقدس الكتب السماوية المنزلة. لقد ورد في القرآن الكريم تعريف وتحديد لمعنى «الأبوين والوالدين»، فإذا وردت كلمة (الأبوين) فنعلم أن الآية قصدت الأب والأم معًا ولكن مع الميل لجهة الأب لأن الكلمة مشتقة من الأبوة التي هي سمة للأب وليست للأم، أما إذا رأيت كلمة (الوالدين) فنعرف أن الآية قصدت الأب والأم معًا لكن مع الميل لجهة الأم لأن الكلمة مشتقة من الولادة والتي هي من صفات المرأة دون الرجل. لذا، كل آيات المواريث وتحمل المسؤولية والتبعات الجسام تكون متبوعة بكلمة (الأبوين) ليناسب ذلك الرجل، فالرجل هو المسؤول عن الإنفاق، فميراثه معروف، وميراثها محفوظ. قال تعالى: (ولأبويه لكلّ واحدٍ مّنهما السّدس ممّا ترك النساء: 11. وقوله تعالى: (ورفع أبويه على العرش يوسف: 100. أما في كل توصية ومغفرة ودعاء وإحسان إلا وتكون الكلمة (الوالدين) ليتناسب ذلك مع فضل الأم. قال تعالى: (ووصّينا الإنسان بوالديه إحسانًا الأحقاف: 15. وقوله تعالى: (وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحسانًا) الإسراء: 23. فسبحان الله العظيم، على دقة اللفظ وروعة البلاغة وحلاوة البيان في القران الكريم، إنه كلام رب العالمين تقدس في سماه وجل في علاه.