بعد ساعة من الحوار العلمي الماتع مع الدكتور بوريس سيرولنيك المختص في المرونة النّفسية، يشعر متابعه أنّه يريد المزيد. هو طبيب أعصاب فرنسي مارس التحليل النفسي، وتخصّص في السلوك البشري، ودرس عن كثب طرق نهوض وتأقلم أطفال الحروب مع حياتهم الجديدة، حاصل على جائزة رينودو الأدبية العام 2008. سيرولنيك الذي بلغ الخامسة والثمانين من عمره لا يمكن اعتباره مجرّد مُنظّرٍ لكل القضايا التي طرحها، فهو يجمع في تاريخه الشخصي بين تكوينه العلمي كطبيب أعصاب وعلم نفس متخصص وأكاديمي مارس المهنة إلى غاية العام 1999، وبين تجربته القاسية كطفل عاش ويلات الحرب. وهو إن كرّر روايته تلك حين أُلقِي عليه القبض وهو في عمر السادسة، فلأنها كانت ولا تزال قصة أطفال الحروب التي تتكرر أمام أعين العالم دون نية في تغييرها، ولأنّه أيضاً أعاد قراءة نفسه، ليفهم أن مفاتيح الحياة كلها تكمن هناك، في ذلك العمر المبكّر الذي يؤسِّس لكل ما سيأتي فيما بعد، وأن أي عثرة في هذا العمر قد تكون عثرة أبدية يدفن فيها الفرد نفسه حتى يموت، أو تتحوّل لبوّابة خلاص حسب مدى مقدرة الطفل على التأقلم والسيطرة على جرحه. يذكّرنا سيرولنيك في كتابه "في الليل سأكتب شموساً"، الذي نال عليه جائزة "بسيكولوجي – فناك" العام 2019، كيف أن الفعل الكتابي غيّر حياة كثيرين من الأيتام والمرفوضين وذوي قصص الطفولة المحطّمة، بحيث قاتلوا خسائرهم بالكلمات المكتوبة، وأصلحوا نفوسهم الممزقة. استدعى الكاتب دموع أدباء مشهورين وجمعهم في ضوء معاناته الخاصة لإقناع كل واحد منّا بفوائد الخيال، وقوة الأحلام، والشفاء، وصلاحيات الكتابة. بالطبع ليس لكل إنسان القدرة على التعبير بالكلمات، لكنّ بالتأكيد لكل شخص طاقة معينة وموهبة ما يمكنه استخدامها للهروب أو الهجوم أو إغواء المعتدي، ما يسميه طبيبنا بالصدمة الصّامتة التي يعرّفها على أنها قوة تجبرنا على الدخول في ردود فعل بيولوجية مماثلة لتلك التي تحدث للحيوانات التي تتعرّض لمطاردة من حيوان مفترس، فحينما يتغلّب عليها الخوف تتوقف عن الحركة وتقاتل فجأة للدفاع عن نفسها. قدّم الكاتب نماذج عديدة من عالم الأدب والسينما، مثل: جان جنيت وجيرار ديبارديو وجان بول سارتر وآخرين، ليشرح بعمق كيف أعاد هؤلاء بناء عالمهم، وكيف أنهم بفضل المخيلة أصبحوا هم المسيطرين عليه. طرح أسئلة غير متوقعة حول أدباء مجرمين تحمس لهم الجمهور مثل "رامبو" الذي كان تاجر أسلحة، وأزاح الستار حول مركز المكانة الحسية التي تتحكّم في سلوك الشخص منذ طفولته، والتي تحفّز الطفل للنمو بشكل صحيح في حال حظي بوالدين جيدين، أو ببديل عاطفي يحميه من هشاشة النمو، فالذي يحدث بسيط تماماً، كل صدمة تغير من عمل المعلومات الوراثية، وتجعل الدماغ يعمل وفق معطيات جديدة، قد تكون مدمِّرة وقد تكون جسراً نحو الخلاص.