يتفنّن الناس في اختيار روائحهم الشخصية وعطورهم الخاصة التي يستخدمونها في حياتهم اليومية، مقارّ عملهم، مناسباتهم الاجتماعية، أجوائهم الفردية، أسفارهم أو إهداءاتهم أو في مسار العناية الشخصية: المنظّفات والملطّفات الكريمات وما شابه. والعجيب أن ثمة بصمة للرائحة بعيدة عن النواحي التصنيعية يهبها الخالق، لا يكاد يشترك فيه معك أحد. ألا ترى حين تُقبّل رأس أمك أنك تشتم شذا فؤادها، وإذ تلثم يدها تجد عبير عطائها، وحين تحتضنك لتُسلّم عليها وتشمّك تشعر أن روائح الدنيا كلها تتقزّم أمام عملاق العطاء الأمومي. تستنشق شيئاً ليس له وجود إلا عندها؛ عَبَقٌ يملأ جسدك ويبلغ شغفك، وتغشاك صحة وعافية وسعادة ليس لها حدّ ولا عدّ! حين تدخل غرفتها، أو تفتح خزانة ملابسها، أو تنظر إلى أغطية سريرها ووسائدها، أو تتأمل مكانها وسجادة صلاتها ومعاطفها وسائر مستلزماتها، وتجلس بجلالة قدرها تحتويك رائحة ليس لها في الكون نظير! إنها البصمة الخاصة لرائحة الأم التي تبقى في فؤادك وتستوطن روحك وتميّزها في أي مكان. وفي الاتجاه الآخر حين تتفنّن الأم في ميدان العطور على اختلافها وتنوعها ما بين البخور ودهن العود والزيوت الطبيعية والمستخلصات العطرية؛ تضيف إلى عالمها شيئاً جديداً لا تراه إلا بين يديها وفي أجوائها؛ تجد رائحتها يشع بها المكان، فما إن تدخل بيتها إلا وتزداد البصمة في التميّز، ثم إذا دخلتَ مكانها: غرفتها أو مجلسها تجد البصمة المريحة الخاصة بها، فإذا ما قبّلت جبينها وضمتك راحتاها تحدثك خلايا روحك أن الندرة ههنا. ولعل من الممارسات المتابَعة في الطب الأصيل: تفعيل الاستشفاء بالروائح في معالجة كثير من الأمراض، كما في حالات تعديل المزاج، والتعامل مع الاكتئاب، وتخفيف حدة التوتر، وتحسين جودة الحياة وتحفيز التفاعلات النفسية الإيجابية! وتغيير الروتين وكسر التقليدية، والتئام جراح الفقد والألم، ورتق حرقة البُعد والحنين، ومعالجة آثار الحزن والوجد. وهذه حقيقة علمية لها شواهد تاريخية، وإثباتات قرآنية:( إنِّي لأَجِدُ ريحَ يُوسُفَ لولا أن تُفنّدونِ) نبيّ، كفّ بصره وابيضت عيناه من الحزن وسنوات مرّت على الفقد، ومع ذلك بقيت الرائحة حاضرة في قلبه وإن رحل صاحبها أو غاب! وردّ الله عليه بصره، بمجرد استنشاقه رائحة من فقده وغاب عنه! ولعلك تلحظ ذلك في ميدانك أنت؛ بون شاسع أن تستيقظ من نومك وتبدأ يومك وتمارس عملك وتؤدي واجباتك في حال واحدة دون حِراك، وبين أن تُجدِّد نشاطك وحيويّتك وتعتني بنظافتك الشخصية وعطورك الخاصة، وتنام وتستيقظ وأنت تُبحر في عالم الروائح الزكيّة لتجد نفسك ومن حولك في غاية السعادة والبهجة، ومختلف تماماً في إنتاجيتك ومزاجك وإقبالك على الحياة. فرق كبير أن تدخل إلى بيتك وتجد رائحة الطهي والبصل والثوم والمقليات وما شابه - حتى لو كان الهدف منها صناعة أجمل أصناف الطعام - وأن تدخل على أجواء النظافة أو رائحة العطور والبخور. وبون شاسع أن يُقبل عليك أحد أبنائك ورائحة النظافة ترافقه؛ أو أن يحتاج إلى شيء من العناية قبل أن تحتويه لتسلم عليه وتمنحه حبك ورعايتك، مع أنّ مكانة الأبناء ثابتة لا تتغير! تفاوت واضح بين أن تستقبل ضيوفك بالبخور والعود والروائح الزاكية ولسان حالك يعلن الترحيب والحبور برؤيتهم، وأن تؤجل ذلك إلى حين انتهاء الجلسة وختام اللقاء! ألا ترى أنك حين ترغب في شراء عطر تجرّب الأنواع المتاحة في المتاجر - ألا ترى أنك تتذكر أشخاصاً عدة وأنت تستعرض الروائح، وربما رغبت في أحد الأنواع لأنه يذكرك بشخصية تعرفها، أو ألغيت فكرة الاقتناء لنوع آخر استحضرت صورة صاحبه مباشرة فور استلامك رائحة العطر. تشعر بكثير من السعادة إذا وُفقّتَ في إهداء من تحب العطر الذي يُحب؛ ووجدته قد استخدمه وأضافه إلى قائمته المفضلة! وتحس بجمال الحياة إذا همس لك أحدهم: ما أجمل رائحة عطرك! وسألك عن نوعه أو اسمه! العطر عالم جميل، وهدية رائعة، وبصمة أخّاذة، وشخصية ثابتة! العطر لغة راقية، ومشاعر جيّاشة يستعذبها أولئك الذين يجعلون انتقاء العطر فن جميل يبدعون فيه ويتقنون تفاصيله، ويُبحرون في أعماقه ويبدعون في أبعاده وكأنهم يرسمون أجمل لوحة ويسعون ليكون لهم بصمة نادرة لا يختلف عليها اثنان! وإذا ما كان أحدهم يشكل لك عطر الحياة؛ كان العطر نكهة أخرى لا تخفى على أصحاب العوالم الصاعدة في التألق والرقيّ! غمر الله حياتكم بعطور الحب والنقاء.