أقامت الجمعية السعودية للفلسفة بالتعاون مع هيئة الأدب والنشر والترجمة في المدينةالمنورة ورقة عمل مقدمة من الدكتور شتيوي الغيثي بعنوان «حوارية ميخائيل باختين لدى الدكتور معجب الزهراني»، وأدار المحاضرة الدكتور عبدالرحمن النويصر. وأكد الغيثي في بداية محاضرته أن فلسفة اللغة تعتبر واحدة من أهم القضايا التي اشتغلت عليها الفلسفة في غالب عصورها؛ بل يمكن اعتبار الفلسفة الحديثة فلسفةً في اللغة إلى حدّ كبير، فالدراسات النقدية الحديثة في معظمها ناتجة عن نوعية هذا التفلسف بالتحديد، فمنذ أطروحات الفلسفة التحليلية شكل المنعطف اللغوي حالة فلسفية، ليس عند المدرسة التحليلية فقط، وإنما كذلك لدى الفلسفة الأوروبية القارية خاصة لدى الظاهراتية والوجودية والتأويلية أو تلك الدراسات النقدية التي تفرع عن اللسانيات من شكلانية أو بنيوية وسيميائية أو حتى تفكيكية. وما يهمنا، هنا في هذه الورقة، هي تلك الاتجاهات اللسانية التي ترى في اللغة استقلالية عن المرجع، وكذلك الاتجاهات المثالية والنفسية التي تموضع الواقع بالوعي، والسبب في الاهتمام بهذين الاتجاهين هو أن باختين يقف موقفاً ناقداً لهما، فهو يرى أن الوعي أو الفهم لا يمكن أن يتحقق إلا بواسطة أداة دلائلية كالخطاب مثلاً، «وأن الوعي نفسه لا يمكن أن ينبثق ويترسخ كواقع، إلا بواسطة التجسد المادي في الأدلة»، وبالأمر نفسه يرى أن الوعي لدى المدرسة النفسية يتقلص لمجرد ردود أفعال نفسية عرضية، كما أن الوعي ليس مادياً خالصاً أو تفريعاً عن الطبيعة كما تقول الفلسفات المادية، والرأي الذي يراه باختين في الوعي إنما هو حالة تفاعلية اجتماعية. يقول باختين: «يتشكل الوعي ويوجد في الأدلة التي تبدعها مجموعة منظمة، وفي غضون علاقاتها الاجتماعية ومنطق الوعي هو منطق التواصل الإيديولوجي، والتفاعل الدلائلي لدى زمرة مجتمعية، وإذا ما سلبنا من الوعي مضمونه الدلائلي والإيديولوجي، فإنه لا يبقى شيء البتة، فهو لا يجد له ملجأ إلا في الصورة أو في الكلمة أو الحركة الدالة»، وهو مع ذلك يرفض منطق اللغة الداخلي كما عند المدارس اللسانية الحديثة من شكلانية وبنيوية، بل يذهب في فلسفته اللغوية إلى التأكيد على أن خصائص الكلمة في صفائها الدلالي إلى مشاركتها في التواصل البشري اليومي، وهذا يذكرنا إلى حد كبير بالمدارس النقدية اللاحقة كالتداولية مثلاً أو فلسفة التواصل لدى هابرماس. يأخذ ميخائيل باختين المسألة إلى تفاعلية حضارية أكبر من مجرد تفاعلية اجتماعية مباشرة، فهو يولي أهمية كبرى إلى تلك اللغة الأخرى التي تفعل فعلها في تكوين اللسان الأصلي، فالتعاليم الفلسفية في نظره لم تكن لتتحقق إلا من خلال التفاعل الحضاري، أو بحد تعبيره: انتباه التعاليم الفلسفية للكلمات الأجنبية، فاتجاه اللسانيات والفلسفة نحو الكلمة الأجنبية يعكس الدور التاريخي الذي لعبته في اللغة الأصل، أي إلى التفاعل الحضاري سواء على مستوى الإبداع أو على مستوى البنى الاجتماعية والسياسية والعادات وغيرها، فالكلمة الأجنبية كانت حاملة للحضارة والثقافة والدين والتنظيمات وكل أشكال الحياة، لأن بدخولها تذوب وتمتزج داخل الوعي التاريخي للشعوب، وهذا بالطبع سيشكل نوعاً من التفاعل اللغوي حتى على مستوى أشكال التحدث الفني والأعمال الأدبية التي لا يمكن فهمها إلا وفق علاقتها مع الأشكال الأدبية الأخرى، وهذا التفاعلية النصية أو «الحوارية» هي ما سوف تؤسس لاحقاً إلى مفهوم التناص الذي قالت به الناقدة جوليا كريستيفا معتمدة على رؤية باختين هذه، لذلك فالحوارية لديه تتسع إلى كافة المستويات التي يمكن لها أن تكون، فهي ليست صيغ الخطاب الحواري المباشر على أهميته، وإنما هي -إضافة لما سبق- كل صيغ التفاعل اللفظي كيفما كان نوعه حتى لو كان على مستوى التلقي البسيط كالقراءة في كتاب مطبوع. إن المنطلق الذي يتكئ عليه باختين في فلسفته اللغوية والنقدية إنما يأتي من فاعلية التواصل اللغوي، أو ما يسميه بفاعلية التلفظ، والتي يؤكد عليها في أغلب كتبه، ولذلك من المهم هنا أن نفهم أكثر مرتكز فلسفته الحوارية أو التواصلية، والتي أثرت على قطاع لا بأس به النقد الحديث. وأشار الغيثي إلى أن آراء باختين في مجملها تدور في الحقل النقدي أو في فضاء الفلسفة اللغوية والأدبية إلا أنها تحمل في طياتها رؤية فلسفية تتكئ على أهمية حضور الآخر، فالخطاب الحواري في أساسه خطاب يستلزم حضوراً للآخر على المستوى اللفظي، أو على مستوى الوعي بالإنسان المغاير، أو حتى الوعي بالذات التي لن تكون إلا من خلال الآخر، فبحسب رأي الناقد تودوروف فإن باختين في محاولة تأسيسه للنظرية الجمالية، أو بصورة أدق محاولته لوصف فعل الخلق والإبداع، فإنه يرى نفسه مدفوعاً لتقديم تصور عام للوجود الإنساني حيث يلعب الآخر دوراً حاسماً، إذ من المستحيل أن ندرك وجود أي كائن بصورة منفصلة عن علاقاته التي تربطه بالآخر الذي له الدور الكبير في إنجاز الوعي الفردي، لأننا نخفق في النظر إلى أنفسنا ككليات، ولذلك فالآخر ضروري حتى ولو بصورة مؤقتة، ولذلك فالفكرة الخالصة عن الذات أو الوجود الناجز المكتمل لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال شخص آخر، لا من إدراكنا نحن لأنفسنا، حتى على مستوى التجربة الجمالية، ولذلك ينقل تودوروف عن باختين ما نصه: «في وجودٍ إنساني آخر فقط أستطيع أن أقع على تجربة جمالية وأخلاقية مقنعة خاصة بمحدودية الإنسان، خاصة بوجود موضوعي تجريبي محدود تماماً. كائن إنساني آخر فقط يمكن أن يمنحني هيئة تتطابق في مادتها وظهورها مع مادة العالم الخارجي وظهوره»، ولذلك فالوعي يتحقق من خلال وعي الآخر. وأضاف تودوروف: «إنني أحقق وعيي الذاتي، وأصبح ذاتي عبر كشف نفسي للآخر، عبر الآخر وبمعونته هو إن الأفعال الأكثر أهمية، تلك التي تشكل الوعي الذاتي، تتحدد بالعلاقة مع وعي آخر، مع وعي ال أنت». الوجود نفسه لم يصبح إنسانياً إلا عبر فعل الآخر، فالعالم برمته لم يعد كما كان مع انبثاق الوعي الأول، فمن خلال الشاهد والحكم ظهر الوعي في الوجود، فالحياة البيولوجية على الأرض بما فيها الحيوانات والأشجار تغيرت وجودها بفعل الوعي. لقد بقي الحجر حجراً، وبقيت الشمس شمساً أي وجودهما الفيزيائي المحض، لكن حدث الوجود نفسه بكليته، فأصبحت شيئاً آخراً لأننا شهدنا ظهور شخصية جديدة وحاسمة على مسرح الوجود الأرضي وهي شخصية الشاهد والحكم (الوعي البشري)، فأصبحت الشمس التي احتفظت بكينونتها الفيزيائية شيئاً آخراً عبر الوعي الذي امتلكه الشاهد والحكم، لقد كفّت عن الوجود المحض لكي تبدأ الوجود بذاتها ولذاتها، وقد ظهرت مقولة الوعي هذه لأول مرة من أجل الآخر، لأنها انعكست على وعي شاهد وحكم آخر، وبهذا المعنى تغيرت الأشياء وتغير الموجودات وتكشفت للوعي بصورة جذرية لأنها تحولت وأصبحت أكثر غنى، وهذه الإشارات تدلي باطلاع باختين على فلسفة هوسرل الظاهراتية أو وجودية هيدجر. وفي رأي باختين فإنه لا يمكن أن يتحقق هذا الوجود من خلال الآخر، ومن أجل الآخر، إلا على مستوى التلفظ، أي المستوى الخِطابي الذي يحضر فيه الآخر بوصفه فاعلاً في تجسيد الكلام وتراكيبه من خلال الحوارية التواصلية بين البشر بما يسميه باختين ب(خطاب الغير) على اعتبار أن اللسان ليس هو انعكاس للترددات والحيرة الذاتية وإنما هو انعكاس لعلاقات المتكلمين، ويتجلى ذلك في الرواية التي تتعدد صيغ الخطاب فيها، فالرواية ليست مجرد خطابٍ سردي، بل جزء من الذاكرة الاجتماعية وتواصلية الخطابات فيها، أو كما يقول: «الرواية هي التنوع الاجتماعي للغات والأصوات الفردية تنوعاً منظماً أدبياً». وإذا كانت اللغة الشعرية في نظر باختين هي لغة مركزية أي أنها تنمو داخل تيار القوى الجابذة نحو المركز، فإن الرواية من الأجناس الأدبية النثرية التي تكونت داخل القوى المعاكسة لهذا المركز، بمعنى أن الشعر يحلُّ فوق القمم الاجتماعية مشكّلةً المركزية الثقافية والقومية والسياسية للعالم اللفظي الأيديولوجي، ومقابل ذلك تبرز الخطابات النثرية الأخرى كصدى للتعدد اللساني في الطبقات الاجتماعية المختلفة، مثل أدب الحكايات الشعبية والأغاني في الشوارع والأمثال والطرائف، فلم يكن هناك أي مركز لساني، والرواية من أهم تلك الأجناس الأدبية، وهذه المركزية الشعرية تتمثل في أن الصورة الشعرية والاستعارية منها بالتحديد تُجري الفعل اللغوي ما بين الكلمة والموضوع داخل طبيعة لغوية، ولذلك فالكلمة لا تفترض شيئاً خارج حدود سياقها الشعري، وعكس ذلك فإن السارد يكشف الموضوع قبل كل شيء من خلال التعدد الاجتماعي المتعدد اللسان للموضوع وتحديداته وتقديراته أو التصورات عنه وبدلاً من الامتلاء الذي لا ينفد من الموضوع ذاته يكتشف السارد كثرة الطرق والسبل لهذا الموضوع من خلال الوعي الاجتماعي المتعدد، ويمكن اكتشاف التناقضات الداخلية للموضوع، وهذا ما يجعل السارد قادراً على تشييد التعدد التصوري للموضوع المشبع بالامتلاء الحواري. قد لا يكون الناقد معجب الزهراني مشتغلاً على فكرة الحوارية من الناحية الفلسفية كما اشتغل عليها من الناحية النقدية التطبيقية، لكننا سنجد تأكيداً على فلسفة باختين الحوارية، ذلك أنها تتكئ على رؤية فلسفية وجمالية جديدة تجعل الأفكار والآراء والمواقف الفكرية والأخلاقية تبدو محكومة وموجهة بمنطق حواري بحيث تتحدد مفهومية الحوارية بوصفها نفياً لمنطق التراتبية المعرفية أو الاجتماعية التي عادة ما تعمل على الإعلاء أو الحط من الأصوات والآراء المختلفة على حساب أو لحساب أصوات وآراء أخرى، لأنها عملية نفي لمركزية الذات. الذات التي تظهر لدى المؤلف أو لكتاباته على اعتبار أنها معيار الحقيقة الذي يتم تقديم الشخوص أو أقوالهم وأفعالهم انطلاقاً منها. بمعنى آخر تبرز الحوارية بوصفها نفياً لكل أشكال التمركز على الذات، أو على الهوية النافية لحضور الآخر في تعدد أشكاله الفردية أو الفكرية أو الحضارية، فالزهراني إذ يعود إلى الرؤية الفكرية الحوارية لباختين فإنه يؤكد الطابع المرجعي لنسبية الحقيقة وقابلية النصوص الأدبية والفلسفية لأكثر من عملية تأويلية، بما أنها متعددة المستويات والتعبيرات والمعاني، فالفكر الفلسفي الحديث الذي يقف باختين على أرضيته، من وجهة نظر الزهراني، هو الفكر الذي ساعد على انهيار المنظومة المعرفية التقليدية ذات الطابع الشمولي لتفقد التصورات الدوغمائية للإنسان والعالم بمختلف أشكالها مشروعيتها الفكرية، وبهذا يؤكد على اتساق فكر باختين مع سياق الفكر الألماني منذ جدلية هيجل أو ظاهرية هوسرل ووجودية هيدجر وتأويلية جادامير، الأمر الذي جعل باختين المفكر الروسي الوحيد الذي تواصل بشكل حواري وخلّاق مع الخطاب الفلسفي الأوروبي قاطعاً الصلة مع الأفكار الشمولية في روسيا من عشرينات القرن الماضي. ولجأ الزهراني إلى المعطى النقدي في تطبيقاته أكثر من المجال الفلسفي، وهذا الأمر يحيلنا إلى حوارية نقدية خاصة من خلال قراءة الآخر المعرفي أو الأدبي الذي تتكشف آخريته قارئاً أو مقروءاً من خلال التصورات المختلفة لثنائية ال»نحن» و»الآخر» في الأعمال الأدبية، الروائية منها تحديداً، حيث تتجلى رؤية الآخر الشرقي العربي لدى الغربي بوصفه آخراً جاذباً في شرقيته الرومنسية الحالمة، إلى شرقية واقعية، خاصة لدى صورة المدينةالشرقية، في حين يأتي الرجال الشرقيون بوصفهم آخر عدواً أو آخر قريناً، بمعنى أنه لا صورة واحدة متمثلة للشرق في النظر الغربي، وإنما صور متعددة متداخلة أحياناً ومتناقضة أحياناً أخرى. وختم الغيثي: «لقد كانت حوارية باختين تتكئ على معطيات فلسفية حضارية من خلال حضور الآخر سواء على مستوى الملفوظ والخطاب أو على مستوى الحضور الأدبي، وهذا الحضور هو الذي أعطى الدكتور معجب الزهراني فرصة بأن يعود إلى كافة النصوص الأدبية والفكرية في الثقافة العربية والغربية أحياناً ويعمل على قراءة وتتبع تلك الحوارية في الخطابات المختلفة، وإذا كان العمل الفلسفي النظري غير واضح لديه إلا أن العملية النقدية الحوارية بما تمتلكه من أرضية فلسفية مهّدت الطريق أمام الزهراني أن يقارب العديد من النصوص الفلسفية العربية خاصة لدى ابن رشد من مبدأ الحوارية والاتصال المعرفي سواء على المستوى الحضاري بين الثقافتين المختلفتين: اليونانية والإسلامية أو على مستوى الحوارية الداخلية بين نصوص النقل ونصوص العقل».