إن الإخلاص والأمانة في مرافق الطريق شيئان عزيزان ومحبوبان جداً بالنسبة لأبناء القبائل والعشائر العربية، فالدليل المرافق قد يخاطر بحياته إذا ما فرّط بالذي يرافقه، ويعرض سمعته للخطر أمام أبناء قومه.. إن التاريخ الاجتماعي للمجتمع القبلي يرتبط برباط وثيق ببيئته وظروفه الجغرافية، حيث يمكن القول إن كثيراً من أشكال التعبير الاجتماعي قد ولدتها ظروف البيئة الجغرافية. ولم يؤدِ هذا التعبير إلى اختلاط الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، إنما دفع المجتمع أو بعض أفراده إلى الانتقال من مكان إلى آخر ما أدى إلى تباين في التنظيم الاجتماعي. ولا تختلف شخصية القبلي من مكان إلى آخر، ومن قبيلة إلى أخرى، ذلك أن مفهوم العرف القبلي سائد بين جميع القبائل، فتعد هذه المفاهيم مكونات أساسية في بنية الشخصية نفسها، إلا أنه إذا كان ابن العشيرة في المناطق العربية ليس من سلالات مختلفة، فإنه من المعقول تماماً أن تكون هناك عناصر مشتركة تظهر في إنتاج هؤلاء الناس جميعاً. وكما ذكرنا سلفاً فإن لورنس يقول: "فمنذ الوهلة الأولى، ترى وضوحاً شاملاً وصلابة في المعتقد. لم يكن لديهم أمور وسط في رؤياهم، فهم أناس يرون بلونين (أبيض أو أسود) فقط. فهم أناس جازمون، يحتقرون الشك، أفكارهم متحررة من القلق والأوهام إلى أقصى الحدود، اعتادوا على المغالاة باختيارهم، وبدا عدم الترابط أحياناً ليكسبهم تأرجحاً على الفور، إلا أنهم لا يرضون بحلول وسط مطلقاً، فهم يسعون وراء متضاربات منطقية عدة، ليصلوا إلى أهداف بسيطة، ودون إدراك أو فهم هذا التضارب أو التعارض، وهم برباطة جأشهم وحكمهم الهادئ يتأرجحون بين خط متقارب". فإنه من المنطق أن نجد هذه الملامح المشتركة، إذ إنهم يجتمعون فرادى وجماعات على رأي واحد دون الخروج على كبيرهم، سواء كان شيخ القبيلة أو أباً أو قائداً. وذلك يرجع إلى امتداد المكان وقسوة الطبيعة، مما يحملهم على التلاحم واختيار القائد وطاعته إلى حد العلاقة الأبوية والتبجيل، وهو ما فرض عليهم نوعاً كبيراً من الوفاء بالعهد. فقد أكسبتهم طبيعة المكان كثيراً من القوة، وكثيراً من التلاحم، لما تفرضه هذه الطبيعة من الوحشة ومن اتساع الأفق. فالطبيعة الصحراوية قاسية، أخذ منها فردها قساوتها وأيضاً صلابتها، كما أن الطبيعة غير غائمة وغير مُشجرة وذات جبال صخرية وعرة، وبالتالي يكون لديه سعة في أفق التفكير، وذلك على العكس من سكان الأودية. كما أنه لا يخلو الأمر من الخوف من المجهول وهو ما فرضته عليهم سلطة المكان. "إنهم شعوب الفورات، الجيشانات، سلالة العبقرية. وإن حركاتهم مؤثرة أكثر، ومتناقضة مع هدوئهم اليومي، وعظماؤهم أعظم تناقضاً بالنسبة لإنسانية صغارهم، وقناعتهم هي غريزة، ونشاطهم حدسي، وكانت العقائد أعظم إنتاج لهم، فهم تقريباً كانوا محتكِري الديانات الملهمة، فثلاث من هذه الديانات ثابتة لديهم... فقد كانت تلك نجاحات سامية، وقد احتفظوا وأبقوا على إخفاقهم لأنفسهم، وإن حواشي وأهداب صحاريهم تقوي معتقداتهم". كما أن هذه الطبيعة الطليقة الحُرة على الدوام قد أكسبتهم حباً وشغفاً بالحرية، فهم يمقتون المال، زاهدون فيه، وفي أي أشياء أخرى، في سبيل الإحساس بالحرية المكتسبة من طبيعة الصحراء. "إن بدوي الصحراء، يولد وينشأ بها بكل كيانه، وروحه لتلك الأرض التي يعجز عنها المتطوعون، ولسبب ما يشعر به دوماً، أنه يجد نفسه طليقاً بشكل ثابت. وهو يفتقد الروابط المادية، الراحة والرفاهية، وكافة الكماليات والتعقيدات الأخرى لينجز ويحقق حرية شخصيته". ومن الصعب تغيير أفكارهم أو معتقداتهم، أو أي رأي آخر دخيل عليهم، فهذا التلاحم غير المعلن بينهم وبين بيئتهم يجعلهم شديدي التمسك بعقائدهم وأفكارهم، فهي جزء من حريتهم. "إن العرب قد تذوقوا الحرية، فلم يكن بإمكانهم أن يغيروا أفكارهم، وأيضاً سلوكهم بسرعة"، ولا يسمحون لأي غريب بالاقتراب من طبيعتهم، وما تحمله من خصائص يعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من ذواتهم، فهم شديدو الغيرة عليها، ولا يحتكرونها لأنفسهم في الوقت ذاته! "فإن هؤلاء الرجال قد نظروا للصحراء على أنها أرض جرداء قاحلة، أو تحمل بحرية كل ما تختاره، ولكن الحقيقة، إن كل تلة وكل وادٍ فيها له أو لها رجل يعتبر مختصاً ومطلعاً بها، ويمكنه أن يؤكد بسرعة حق عشيرته وقبيلته فيها ضد أي اعتداء أو عدوان، وحتى الآبار أو الأشجار يوجد لها أسيادها، الذين يسمحون للناس أن يوقدوا من أشجارها ويشربوا من آبارها بحرية، طالما تطلبت حاجتهم لذلك، ولكنهم في الوقت نفسه (هؤلاء الأسياد) يدققون بشكل مستمر في كل من يحاول أن يحوِّل ملكيتها لحسابه أو أن يستغلها أو أن يحوِّل إنتاجها لصالحه، أو منفعته الخاصة من بين الآخرين. إذ إن الطبيعة والعناصر الموجودة فيها هي للاستخدام الحر، ولكل شخص صديق معروف من أجل استخدامها في أغراضه الخاصة وليس أكثر، والنتائج المنطقية هي في تقليص هذه الرخصة، ليقتصر امتيازها على رجال الصحراء، وقسوتهم وصلابتهم بالنسبة للغرباء غير المزودين بالتعريف أو الضمان، حيث الأمن المشترك يكمن في المسؤولية المشتركة للأقارب". وعلى الرغم من هذا الألق الشديد في الارتباط بالمكان وحمايته والذود عنه ضد أي دخيل غريب، إلا أنهم لا ينبذون الغرباء أو يمقتونهم، وهذا يرجع إلى شيمة الضيافة والإجارة وما إلى ذلك من الشيم العربية التي لهم سلطة القانون عليهم. فيقول عنهم وثسجنر المستشرق الرحالة الإنجليزي: "لقد حصلت على حرية ما كنت لأحصل عليها في المدن، وعشت فيها حياة لا تعرف القيود، إن ما ليس ضرورياً يمكن الاستغناء عنه، عرفت معنى الصحبة وواجبات الزمالة... ذقت طعم الهدوء والطمأنينة والمتعة الحقيقية التي تنبع من القناعة والزهد". فلا يمكن بأي حال من الأحوال وجود الخيانة أو النكوص بالعهد، أو التفريط في أي مستجير أو وافد على هؤلاء الرجال. يقول لورنس العرب عن رفيق الطريق: "عند مرافقتي، فقد أمكننا أن نثق به. فإن الإخلاص والأمانة في مرافق الطريق شيئان عزيزان ومحبوبان جداً بالنسبة لأبناء القبائل والعشائر العربية، فالدليل المرافق قد يخاطر بحياته إذا ما فرّط بالذي يرافقه، ويعرض سمعته للخطر أمام أبناء قومه. فلو سوّلت نفس (الذي ينتمي إليه) الذي كان وعد ليرشد ذلك الرجل إلى المدينة أن ينكث بوعده ولو كان مسيحياً، فإنه عندئذ سينبذ بمنأى عن أبناء قومه ومن الرأي العام كذلك، على الرغم من أن الدافع الديني إلى جانبه، سيعيش حياة تعسة، منفياً وحيداً بين الجبال، ولن يصادقه أحد، ولن يسمح له بالزواج من أية ابنة في القبيلة".