يعاني قطاع السلع الأساسية من تقلبات مستمرة في ظل وجود محفزات عديدة تزيد من صعوبة صموده، حيث شهد الأسبوع المنصرم تراجع الطفرة الهائلة في أسعار السلع الأساسية نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا منذ أربعة أسابيع تقريباً؛ وفي مقدمتها النفط الخام الذي انخفض مؤقتاً إلى ما دون 100 دولار أمريكي للبرميل الواحد ما شكل ختام جولة ارتفعت في أسعار النفط وتراجعت، ثم ارتفعت بشكل حاد، وساهمت محادثات السلام الروسية الأوكرانية الجارية، رغم عدم جدواها حتى اليوم، في تحفيز أولى جولات سلسلة رفع أسعار الفائدة في الولاياتالمتحدة إلى جانب تعّهد نائب رئيس مجلس الوزراء الصيني بتوفير الدعم الاقتصادي، ما عزز تقلبات قطاع السلع الأساسية المتواصل. ويقول أولي هانسن، رئيس استراتيجية السلع لدى ساكسو بنك، ارتفعت أسعار السلع الأساسية، مع وجود استثناءات قليلة، بشكل ملموس منذ إصدار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوامره بشنّ الهجوم على أوكرانيا، مما تسبب في تغيير حالة الأسواق من مُجرد القلق من محدودية العرض وصولاً إلى اختفاء العرض بشكل فعلي، ونتيجة لأهمية الدور الذي تلعبه روسيا كثاني أكبر موردي للمواد الخام في الاقتصاد العالمي، تؤدي إجراءات عزل روسيا المستمرة والعقوبات التي يفرضها المجتمع الدولي عليها إلى إحداث تغييراتٍ مقلقة، بسبب التخلّي عن خط إمدادٍ أساسي لقطاعات الطاقة والمعادن والمحاصيل، وأحدثت هذه التطورات تقلباتٍ وقفزات قياسية في الأسعار ونطاقاتها، قبل أن يتجه قطاع السلع إلى تسجيل تراجعه الأسبوعي. وانعكست بعض التغييرات والمستويات المقلقة فور حدوث الغزو على مؤشر بلومبيرغ للسلع الرئيسية والذي يتتبّع أسعار العقود الآجلة لأربع وعشرين سلعة رئيسية تتوزع بالتساوي بين الطاقة والمعادن والزراعة، حيث سجلت تداولات ضعيفة خلال الأسبوع الماضي لا سيما مع تعديل المركز الأولي وزوال ردود الفعل المضطربة. وسجلت بعض الأسواق تراجعاً رغم حفاظ المؤشر على ارتفاعه بواقع 25 % هذا العام، ما يعني تخطيه مستويات العام الماضي والذي كان الأقوى في القطاع منذ عام 2000. وأكمل خام برنت جولة ارتفعت خلالها أسعاره وتراجعت بما مجموعه 85 دولاراً أمريكياً للبرميل، من 97 دولاراً أمريكياً إلى 139 دولاراً أمريكياً وبالعكس عائداً إلى مستويات ما قبل الحرب. وجاء تصحيح الأسعار من أعلى مستوى لها منذ 14 عاماً مدفوعاً بالمفاوضات الروسية الأوكرانية فضلاً عن الانخفاض المؤقت في الطلب من الصين بسبب أزمة كوفيد- 19 وقيام التجار بخفض مراكزهم الاستثمارية بسبب شدة تقلبات السوق. وما يزال الوقت مبكراً للتأكد من تراجع أداء خام برنت مع تنامي تأثير ضعف الإمدادات الروسية خلال الأسابيع المقبلة وهو ما يعوض ويفوق تأثير حدوث تباطؤ مؤقت في الطلب من السوق الصينية بفعل أزمة كوفيد- 19. ويضاف إلى ذلك تعزيز دورة رفع أسعار الفائدة في الولاياتالمتحدة لمخاوف النمو والتي عانت شهوراً عدة من نقص العرض إلا أنها ربما تمنع الارتفاع المتكرر في أسعار النفط وصولاً إلى مستوى الارتفاع الأخير، ولكن يبقى السوق ضعيفاً أمام أي تراجع ناتج عن تصاعد الحرب الروسية الأوكرانية في ظل تراجع الزيادات في الأسعار. وركزت وكالة الطاقة الدولية في أحدث تقاريرها الشهرية بشأن سوق النفط على المخاطر مزدوجة المسار في أسعار النفط إلى جانب الترجيحات بمساهمة ارتفاع أسعار السلع وتبعات العقوبات الدولية المفروضة على روسيا بخفض النمو الاقتصادي العالمي، وارتكزت الوكالة على هذا الأساس لخفض توقعاتها بشأن استهلاك النفط العالمي بمقدار 1.3 مليون برميل يومياً لهذا العام، إذ يأتي الجزء الأكبر من الانخفاض نتيجة تراجع الطلب الروسي مع هبوط الاقتصاد إلى مستويات الفترة السوفيتية في حين ينعكس الإغلاق الحالي في الصين بانخفاض مستويات الطلب هناك. ويبرز من ناحية أخرى احتمال حدوث اضطرابات واسعة النطاق في إنتاج النفط الروسي بوصفه تهديداً قائماً، والذي ترى وكالة الطاقة الدولية إمكانية إحداثه صدمة عالمية في إمدادات النفط. سوق الغاز الأوروبية وانخفضت تداولات سوق الغاز الأوروبية على غرار السلع الأخرى نتيجة ترافق انخفاض التداول مع غياب انخفاض ملموس في تدفقات الغاز الروسي وحلول فصل الربيع وتراجع الطلب على التدفئة. وعاود السعر الفوري انخفاضه مع تداوله بنحو 100 يورو لكل ميجاواط ساعي متراجعاً بنسبة 70 % عن الذروة التي تسببت بها المخاوف في 7 مارس عندما وصلت الأسعار لفترة قصيرة عتبة قياسية تعادل 345 يوروهاً لكل ميجاواط ساعي، ما يعادل أيضاً سعر 630 دولاراً لبرميل النفط الخام. وتبدو سوق الغاز الأوروبية أفضل حالاً من توقعات مطلع العام، حيث شهدت شتاءً معتدلاً ودفقاً جيداً من شحنات الغاز الطبيعي المسال من الولاياتالمتحدة، ما ساعد في تعزيز الإمدادات وتفادي استنفاد المخازن. وتبقى التوقعات بشتاء حافل بالتحديات في العام المقبل قائمة مع تداول العقود الآجلة من أكتوبر وحتى الشتاء بمستوى أدنى من 95 يوروهاً لكل ميجاواط ساعي بقليل، إذ يشير هذا المستوى إلى تواصل الصعوبات طويلة الأمد أمام الصناعات الثقيلة المستهلكة للطاقة. وانخفضت أسعار الذهب، على غرار المعادن الأخرى، بعد بلوغها ذروة تسببت بها مخاوف الحرب أدنى بقليل من أعلى مستوى قياسي لعام 2020 بواقع 2074 دولاراً أمريكياً للأونصة. وساهم تزامن انخفاض أسعار النفط، وهو المؤشر الأدق لقياس المخاطر الجيوسياسية، مع التوترات السابقة لاجتماع اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة المقرر يوم الأربعاء في حدوث تصحيح بقيمة 175 دولاراً أمريكياً وصولاً إلى مستوى الدعم الرئيسي أدنى بقليل من 1900 دولار أمريكي للأونصة. وأثمر إطلاق اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة دورة رفع أسعار الفائدة المرتقبة عن انتعاش السوق، وانتعشت سوق الأسهم نتيجة توقعات النمو المتفائلة التي أطلقها جيروم باول رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي، كما حظي سوق السبائك بالدعم وسط مخاوف من الصعوبات التي تنتظر الاحتياطي الفدرالي لكبح التضخم دون المخاطرة بإحداث تباطؤ كبير. ويمكن أن تكون عمليات التصفية الطويلة من الصناديق التي تستخدم الرافعة المالية وحملت عقود الذهب الآجلة في الأسابيع الماضية قد اكتملت، بينما حافظ المستثمرون الذين يركزون على المدى الطويل على مشترياتهم من الصناديق المتداولة منذ اندلاع الحرب. وقفزت إجمالي الحيازات بمقدار 22 طناً إلى أعلى مستوياتها خلال عام واحد لتصل إلى 3,236 طناً، ويذكر أن نصف الزيادة المسجلة جاء خلال عملية التصحيح المذكورة. ونحافظ على توقعاتنا بتوجه صاعد للأسواق مع استمرار التضخم، بينما قد تعاني البنوك المركزية للحدّ من الخسائر وسط المخاطر المرتبطة بتباطؤ اقتصادي وشيك. كما نعتقد أن الأزمة الروسية-الأوكرانية ستواصل دعمها لاحتمالات ارتفاع أسعار المعادن الثمينة، ولا يقتصر ذلك على الإقبال المحتمل قصير الأجل على أصول الملاذات الآمنة التي ستشهد تقلبات واضحة، وإنما بسبب تأثيرات هذه الأزمة على التضخم الذي يُرجح أن يحافظ على ارتفاعه مع تباطؤ النمو العالمي، مما يضطر البنوك المركزية، ولا سيما الاحتياطي الفدرالي، إلى التراجع عن زيادات أخرى والعودة إلى تجديد جهود التحفيز. وينطوي مثل هذا السيناريو على اتجاه تصاعدي للذهب والفضة بشكل خاص، في ضوء اعتقادنا بارتفاع أسعار المعادن الصناعية وخاصة النحاس. وسجل الذهب ارتفاعاً بنسبة 6 % بالدولار و9.5 % باليورو مقابل انخفاض بنسبة 7.5 % على مؤشري ستاندرد آند بورز 500 وإم إس سي آي للأسواق العالمية، على الرغم من تحديات ارتفاع العائدات الحقيقية وإظهارها لمؤهلات التنويع، وقد يؤدي الوصول إلى مستوى الدعم الرئيسي عند 1890 دولاراً أمريكياً للأونصة وتخطي عتبة 1957 دولاراً أمريكياً للأونصة إلى تأكيد احتمال حدوث ارتفاع جديد.