الكتَّابُ نوعان؛ من يكتب عنه الغير ليعرف به، ومن تُعَرفُ به موهبته، والقاصة الجزائرية "آمال شتيوي" هي أميرة الكتابة الومضية في الجزائر بلا منازع، تتمتع بالموهبة الفائقة، وألوان التخييل؛ فهي تستطيع الكتابة ضمن العديد من الأجناس بسهولة تامة وفق رؤية دينامية متعددة الأبعاد، مفعمة بمسوح الشاعرية والرمزية الإيحائية والواقعية. ولئن عالجت في مجموعاتها الومضية جوانب تتعلق بالواقع والذات والجماعة والوجود والكائن والممكن عبر مسار الخط الزمني استذكارا وحاضرا واستشرافا مع ما يعتري هذا الخط من تموجات واختلالات؛ فإنها انتقلت هذه المرة إلى مجال أكثر رحابة واستيعابا لتبوح بالكثير مما يختلج في ذاتها، ويمور في مخيلتها الواسعة. وهنا أود أن أشير إلى انتقال القاصة من الكتابة الومضة إلى مجال الرواية، وخصوصية ذلك، وماذا أضاف لمجال هذه الأخيرة أو لرصيد الكاتبة الفني. فآمال شتيوي تدرك جيدا أبجديات الإبداع السردي بأجناسه، وتتقن أصوله، وما عملها الروائي الأول والمعنون ب(قيد الانطفاء) -والصادر هذا العام عن دار (خيال) الجزائرية- إلا خير دليل على مدى ما تتمتع به من مقدرة فنية خالصة تمكنها من ولوج عوالم الأجناس الأدبية الأخرى بكل يسر. هذا العمل الجاد والمميز تشكيلا ودلالة وتجريبا، استعانت فيه المبدعة بكل ما يمكن أن يجعل مؤلفها متفردا، بداية بالعنوان، فالغلاف، ثم التقديم، مرورا إلى آليات التشكيل الحاضرة في متن النص الروائي، وانتهاءً بتنوع المدلولات، وأسلوب السرد، واللغة الفنية العالية. وقد ركزت القاصة في عملها الجديد والمتوسط الحجم مقارنة بغيره من الأعمال الروائية وهي مخالفة صريحة لما سبق، وإشارة إلى أن الحجم غير مهم بقدر ما تهم فنية العمل وعبقريته وروعة أداءه، دون أن ننسى عبارة (ما تقول وكيف تقول). أما فيما يخص المتن المضموني، فقد ركزت المبدعة في عملها (قيد الانطفاء) على أربعة موضوعات رئيسة تفرعت منها دلالات جزئية متنوعة حسب الحدث والشخصية والقصة. ونشير إلى أن هذه الرواية يتداخل فيها التاريخ بالسرد، والسير الذاتية بالواقعية، وبالتخييل؛ فقد بدأته بالسرد الذاتي لتنتقل إلى التاريخ لإحدى أهم الفترات في تاريخ الجزائر، لتنتقل إلى محطة أخرى مهمة وفاصلة في تاريخ الجزائر المستقلة ألا وهي العشرية السوداء وما حدث فيها من وقائع حساسة ومؤلمة، لتمضي إلى السرد الواقعي حيث روت قصة حياة البطلة وحيوات الشخصيات الثانوية على اختلافها، سواء أكان ذلك تلميحا أو سردا مباشرا أو كان سردا جزئيا موزعا حسب الأحداث على ربوع المتن أو دفعة واحدة، وقد تجلت براعة الكاتبة في هذا الخصوص كما في غيره من نقاط العمل الأخرى، لتمضي قدما في عملية السرد، ما شكل منعرجا حاسما في تاريخ البشرية جمعاء، إذ أعدها محطة تصويرية تاريخية ركزت على مجريات الأحداث ومخلفاته الشديدة الوطأة على مختلف المستويات والصعد، فهي قد خصصت فصلا للحديث عن فيروس كورونا منذ اكتشافه في الصين إلى انتشاره ليطال ربوع العالم وما انجر عنه. هذه الرواية تعد بحق إحدى أجمل ما كتب في الأدب سواء من حيث التشكيل أو الدلالة أو التجريب أو الأسلوب أو اللغة أو الإخراج الفني على نحو عال من الاحترافية والتمكن، فمن يقرأ هذا العمل يحس بنوعين من المشاعر؛ متعة القراءة، حيث إن فيها من التشويق ما يدفع القارئ على المواصلة إلى النهاية، ومتعة المشاهدة التخييلية البصرية، ذلك أن مفرداتها تتحول آليا إلى صور ولقطات ومشاهد فيليمة تتوالى عبر شريط المخيلة بتوالي كلماتها، ولا شك أن تميز هذه الرواية وانفرادها على أكثر من صعيد يحقق القصدية المطلوبة والتأثير على المتلقي مباشرة حين تصفحه للعمل. *ناقد وأستاذ جامعي