للتواصل غير اللغوي أشكال متعددة، ومظاهر مختلفة، فهو ليس مقصوراً على الحركات، والإيماءات، والإشارات فحسب، وهو ليس حكراً على علامات بعينها يردّدها (التداوليون) لإثبات التواصل بلا نص، أو خطاب، وإنما الأمر أوسع من ذلك، فالتداولية في أصلها علم استعمال اللغة، وهي أيضاً فن من فنون التواصل اللغوي، وغير اللغوي، تعتمد بشكل كبير على (المقامية)، و(المقصدية)، و(الحجاج)، ونحوها؛ ومن هنا فإن كثيراً من علاقاتنا، وتصرفاتنا تخضع لمعيار التواصل، ويمكن أن تكون مؤثرة في مقامها، وقد تكون مقنعة، وليس الأمر محدوداً على تواصلنا الكلامي، أو الخطابي، أو ما شابه ذلك، بل قد نجد هذا الأمر ينطبق على ما نقوم به من سلوك، أو ما يصدر عنا من عواطف، وأحاسيس، ومشاعر، كالبكاء مثلاً. ولئن ذكر بعض المهتمين بالتداولية غير اللغوية علامات للتواصل غير اللغوي كثيرة، فإنه قد غاب عنهم (البكاء) بوصفه من أهم المشاعر المؤثرة في نفس الإنسان، فهذا (طوماس دوفير) في كتابه (التواصل بكيفيات أخرى) يشير إلى علامات عديدة للتواصل غير اللغوي، ليس من بينها (البكاء)، فهو يذكر مثلاً: (السكوت، والملابس، والمظهر الجسماني، والنظرة، وحركات اليدين، والابتسامة، والإيماءات، والانسحابات، والتمهيدات، والهدايا، والعطور، والتبغ)، ويلحظ اهتمامه بالابتسامة، دون البكاء، وقد يكون التركيز على الابتسامة من باب التفاؤل، وبث الأمل، والانشراح، وحب الناس للسعادة، والإضحاك، وإقبالهم على التبسّم دون التجهّم. وليس البكاء في كل أحواله مذموماً، كما أنه ليس محموداً على إطلاقه، ومن هنا فهو يخضع لمعيار تداولي، وإن كان شعوراً مفاجئاً لا يستطيع الإنسان التحكم به، أو السيطرة عليه، لكنه مع ذلك لا بد أن يراعي فيه ظروفه، وأحواله، ومقام بكائه؛ لهذا كان الشعراء يعاتبون أعينهم بعدم بكائها أحياناً؛ فهذه الخنساء (ت24ه) ترثي أخاها صخراً فتقول: «أَعَينَيَّ جودا وَلا تَجمُدا / أَلا تَبكِيانِ لِصَخرِ النَدى»، وعلى عكس ذلك ربما وبّخ الشعراء أعينهم بعدم قدرتها على كفّ الدموع، كما فعل الصمة القشيري (ت96ه) في قوله: «بَكَت عَيني اليُمنى فلمّا زَجَرتُها / عن الجهلِ بعد الحلمِ أَسبَلَتَا مَعا»؛ فالبكاء هنا ينطق بلغات مختلفة؛ ولهذا قال المعاصرون: «أنبل اللغات الدموع». وقد حدّد الجاحظ في كتابه (البخلاء) معياراً تداولياً للبكاء، فأشار إلى ضروبه، ومقاماته، يقول مثلاً: «وأنا أزعم أن البكاء صالح للطبائع، ومحمود المغبّة، إذا وافق الموضع، ولم يجاوز المقدار، ولم يعدل عن الجهة، ودليل على الرقة، والبعد من القسوة، وربما عُدَّ من الوفاء، وشِدّةِ الوجد على الأولياء، وهو من أعظم ما تقرّب به العابدون، واسترحم به الخائفون، وقال بعض الحكماء لرجل اشتد جزعه من بكاء صبي له: لا تجزع، فإنه أفتح لجرمه، وأصح لبصره..»، ثم قال عن البكاء في المقابل: «وربما أعمى البصر، وأفسد الدماغ، ودلّ على السخف، وقضى على صاحبه بالهلع..». على أن نظرة الآخرين للبكاء دائماً تكون مصحوبة بالشفقة، والأسى، والحزن، غير أنها ربما كانت مبعث جمال عند بعض الشعراء، كما فعل أبو نواس مثلاً حين رسم صورة جمالية للبكاء في قصيدته المشهورة: «يَبكي فَيَذري الدُرَّ مِن نَرجِسٍ..»، فليس البكاء لغة للحزن مطلقاً، بل قد نجد في البكاء فرجاً، أو فرحاً، أو نحوه، وحينئذ تتعدد مقاماته، وأحواله، وتلقي الناس له.