تعتبر السلطة الهدف الرئيس لمعظم الدول حول العالم فهي خليط ما بين القوة والمشروعية، وتمنح لمالكها حق استخدام القوة المبررة للدفاع والحفاظ على مصالحها أو لتحقيق أهدافها، وتُحدد هذه القوة تحت مظلة السلطة بإطار المشروعية، فالمشروعية هنا تتمثل في وثيقة الاتفاق التي توضح حدود وملكيات الأطراف، وربط استخدام القوة بأي تجاوز لهذه المشروعية. منذ العهد القديم لم تكن هنالك سلطة عالمية؛ لأن مفهوم السلطة يتطلب وجود القوة والمشروعية فيمن يمتلكها، وحتى في عصر الإمبراطوريات المبني على أن القوة هي الأساس ومن ثم تتبع المشروعية إلا أنها لم تشمل العالم ككل. فالقوى متنوعة بحسب طبيعة الدول؛ حيث كان مفهوم السلطة الإمبراطورية قائم على القوة العسكرية والفكر التوسعي بغض النظر عن مفاهيم القوى الأخرى، وهذا يعود لاعتداد كل قوة موجودة في ذلك الحين بنفسها ومحاولة فرض سيطرتها على أكبر رقعة جغرافية ممكنة، وهو الذي أوجد تصادم المصالح ما بين هذه القوى. بمثل هذا فيما قبل الحرب العالمية الأولى فمفهوم السلطة كان قائماً على مفهوم القوة أكثر من المشروعية، حتى مع ظهور بعض محاولات تغليب المشروعية على القوة في بعض الاتفاقيات الثنائية أو المتعددة إلا أنها لا ترقى لأن تشكل مفهوم السلطة العالمية، حيث كان الفكر الإمبراطوري ممتداً ويجتاح العالم وكانت فكرة التوسعية لدى الدول القوية قائمة وهدفاً رئيساً لها، وظهر ذلك في محاولات الاستيلاء على الدول الأقل قوة من أجل إخضاعها تحت سلطتها سعياً لتشكيل سلطة واسعة الانتشار. فقد أحدث القرن التاسع عشر خصوصاً في أوروبا بعد الثورة الصناعية تداخلاً في المصالح ليضيف مفهوم القوة الاقتصادية على مفهوم القوة المشكلة للسلطة وحولتها إلى أقرب ما تكون قوة مكافئة للقوة العسكرية. ارتكاز مفهوم السلطة على القوة العسكرية يعود إلى إمكانية هذه القوة أن تقوم بحماية مصالح الدولة سواء الاقتصادية أو السياسية، إلا أن التحول في تطور عمليات الإنتاج أحدث الغلبة للقوة الاقتصادية كعامل رئيس في المفاوضة والاستيلاء على حصة من التكوين العسكري، وهو ما خلق التصادم في المصالح بالإضافة إلى تنامي الأيديولوجيات القومية التي نتجت عنها الحرب العالمية الأولى، ومن دون الدخول في تفاصيل ما حدث؛ فإن جهود إنهاء الحرب العالمية الأولى سعت إلى محاولة تقنين القوة الموجودة في ذلك الوقت من خلال تغليب المشروعية بعد إنشاء عصبة الأممالمتحدة، إلا أن هذه الجهود لم تستمر طويلاً، حيث أن المنطقة في حينها لم تخرج من مفهوم الصراع والفكر الإمبراطوري والاستحواذ على عناصر القوة، والذي تم إعادة ترتيبها في ألمانيا لتقوم الحرب العالمية الثانية. ونتيجة للحربين العالميتين فإن هنالك اختفاء لمواطن قوة وظهور لغيرها، حيث أن الكثير من الإمبراطوريات الموجودة في أوروبا حينها أصبحت تحت وصايا إمبراطوريات أو دول جديدة، وهو ما ساعد على تحجيم الفكر الإمبراطوري، ليجعل من تأسيس منظمة الأممالمتحدة وإنجاحها مشروعاً عالمياً، ليكون هدفها الرئيس ترشيد استخدام القوة وتغليب جانب المشروعية في جميع الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية كمنظومة لحوكمة السلطة العالمية، والتي تم من أجلها إنشاء مجلس الأمن وصندوق النقد الدولي ووكالات الأممالمتحدة الأخرى، التي تضع الإطار العام للتعامل الدولي والتي تسعى من خلاله لتنظيم القوة والمشروعية داخل هذا النظام. أصبح دور الأممالمتحدة فعالاً بعد الهيمنة الأميركية وتشكل مفهوم الأحادية القطبية وذلك منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه، فكما ذكرت سابقاً إن الأممالمتحدة تعتبر جهازاً يسعى إلى حوكمة النظام العالمي وليس لحكمه، وإنه لا يملك السلطة الكافية لردع التجاوزات على النظام في حال حدوثها، فالحوكمة لا تعني وجود القوة الرادعة لأي تجاوز يحدث لهذا النظام أكثر من تقديم التوصيات والشجب والإدانات الرسمية. إن وجودية التأثير للأمم المتحدة هو ما تحققه لها الولاياتالمتحدة الأميركية بسبب هيمنتها الدولية واعتباراً بأنها القوة الأعظم فهي من تقدم هذه القوة لخدمة سلطة الأممالمتحدة لتحقيق أهدافها، والذي وبلا شك يؤثر على الحياد في المواقف العامة للأمم المتحدة تجاه الولاياتالمتحدة الأميركية. سعت الأممالمتحدة منذ تأسيسها في التركيز على كيانات الدول أما المنظمات العابرة للحدود لم تكن ضمن هذه العملية، واليوم إن وجوديتها أمام تحدٍ كبير؛ حيث أن التأثيرات التي تنتجها القوى غير الحكومية على مفهوم القوة داخل النظام الدولي أصبحت أكثر تأثيراً من الدول، وإن مجال التأثير الذي تحدثه الأممالمتحدة من خلال أجهزتها مرتبط فعلياً بالجانب السياسي والعسكري والاقتصادي، في حين أن القوى غير الحكومية والمتمثلة في الشركات أو المنظمات غير الربحية أخذت في التأثير على طبيعة القوة داخل كل مجال، حيث أن القوة السياسية أصبحت محكومة بالقوة العسكرية، والقوة العسكرية محكومة بالقوة الاقتصادية أيضاً، وأن القوة الاقتصادية مرتبطة بعمليات العرض والطلب، والتي تصل في تسلسلها داخل الدول إلى المتطلبات والقيمة العامة للمجتمع، حيث أن الدائرة الرئيسة لتشريع الدولة في المجتمع هي مكان العمل لهذه المنظمات غير الحكومية. إن التنوع الذي أحدثته الأممالمتحدة في مجالاتها وبلا شك سيتطلب منها حماية المشروعية الدولية ليس من خلال القوة العسكرية والسياسية فقط بل القوة الاقتصادية أيضاً، حيث أن ما سهل العمل على الأممالمتحدة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي هو أن جميع هذه القوى مرتكزة لدى الولاياتالمتحدة، ولكن المنافسة الفعلية في المنظمات العابرة للحدود أصبحت خارجاً عن سيطرة الأممالمتحدة، ولعل أبرز المنافسات تكون في المنظمات التقنية؛ فالصراع الساخن على المستوى التقني حول العالم ما بين الولاياتالمتحدة وجمهورية الصين، أدى إلى تصاعد تأثير الصين في الاقتصاد العالمي، فمنافستها السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة سيؤثر وبلا شك على ما تقوم به الأممالمتحدة، وذلك نظراً لوجود نظام عالمي مختلف بدلاً من كونه أحادي القطبية أصبح ثنائي القطبية وبأقل تقدير على الجانب الاقتصادي. إن بداية المنافسة على طبيعة القوة الاقتصادية أصبحت ظاهرة على المستوى العالمي، وذلك بتأثر الولاياتالمتحدة الأميركية بدخول الصين كدولة رائدة في الاقتصاد العالمي، كما أن مفاهيم السلطة العالمية ستتأثر داخل منظومة الأممالمتحدة، حيث أن المشروعية الدولية والتي كانت منذ أواخر القرن الماضي مرتكزة على القوة الأميركية فإنها اليوم ليست أمام القوة الأميركية فقط بل القوة الصينية أيضاً. إن التغير في طبيعة القوة الداعمة للسلطة الأممية بلا شك سيحدث تأثيراً على طبيعة عمل منظومة الأممالمتحدة، ليجعلها أمام تحدٍ كبير مرتبط إما بالتأثير كما تفعل منذ نهايات القرن الماضي بدعم الولاياتالمتحدة أو بالتبرير للتغيرات داخل المنظومة التشريعية التي ستؤثر بها الصين كقطب ثانٍ، وهذا سيعود إلى قدرة القائمين عليها في عمل الموازنة ما بين القوتين، فالولاياتالمتحدة الأميركية مازالت تمتلك أقوى جيش في العالم، وتمتلك الخبرة في التوسع العالمي من أجل حماية سلطة الأممالمتحدة في حال تم انتهاكها، أما الصين فتعتبر المحرك الرئيس للاقتصاد العالمي وهو ما يضمن بقاء تأثير القوة العسكرية والسياسية.