مع امتداد التاريخ السينمائي والدرامي الأميركي والأوروبي كانت هناك عشرات الأعمال التي لاقت استحسان واهتمام وتفضيل شرائح واسعة من محبّي فئة الرعب على اتساع رقعة الكوكب الأزرق، ولطالما كان العرب حديثي عهد مع هذه الصناعة، وكانت تجاربهم إمّا متواضعة مغامرة أو مجرد محاولات بسيطة لا ترتقي بذائقة الجمهور، حتى تمّ إطلاق مسلسل الزيارة على منصّة شاهد في أواخر عام 2021، والذي كان التخوف الرئيس الذي يحيط به هو تصنيف صنّاعه له ب(الرعب)؛ الأمر الذي وضعه في حالة تنافسية معقّدة، للدرجة الذي بدأت أقلام النقّاد تطاله منذ الحلقة الأولى من العرض، ولكنّ المفاجأة الكبرى تمثّلت بقدرة المسلسل كقصةٍ وتمثيلٍ وإخراج على إقناع الكثيرين بأحقيته كي يكون أول عمل رعب عربي حقيقي بتصنيف جيد جداً مرتفع، وسآتي على ذكر المسببات التي منح بفضلها هذا الترتيب. على الرغم من تناول القصة الرئيسة (لعنات الأرواح الشريرة على العوائل) سابقاً في عشرات الأفلام، إلّا أنّ استنادها على أحداثٍ حقيقية، وظهور بعض الشهود على تلك الأحداث في الحلقة الثامنة من العمل، وهي الجانب التوثيقي للحكاية، ساهم في مضاعفة جرعة الإخافة والهلع في نفوس المشاهدين، ممّا حُسب كنقطة إيجابية في صالح القائمين عليه، كما أنّ أجواء الثمانينات اللبنانية المكتنفة بظروف الحرب والخوف وقلة الأمان، والمناطق المختارة بعناية للتصوير الداخلي والخارجي، والاهتمام بتفاصيل الملابس والمكياج والكوادر أسهموا في رفع سوية المشاهدة، ويعود الفضل في هذا الأمر أولاً للمخرج الإسباني أدولفو مارتينيز، الذي وضع خبراته المستخدمة سابقاً في أعمالٍ تشويقية مهمة ضمن مسلسل الزيارة ليخرج بجودة ممتازة تحفّز ما سيتلوها على مضاعفة التنبه لركائز النجاح في أعمال الرعب؛ ألا وهي الإبداع في خلق الخوف، ورفع منسوب التوتر جنباً إلى جنب مع التشويق قبل حلّ اللغز الأساسي وفك الطلاسم المطروحة في الحلقات الأولى. ومن ناحية الجرافيك والمؤثرات البصرية والسمعية التي تمّ استخدامها، فلقد اجتهد كلّ من مصممي الصور ومعالجي الألوان، والمؤلفين الموسيقيين على الوصول إلى تجربة تستحق الإشادة، والجدير بالذكر أن مستوى تلك المؤثرات أخذ في التضاعف مشهداً تلو آخر وصولاً إلى الذروة في الحلقة الأخيرة، ومع أنّ الكثير من الحيل المثيرة التي تم تضمينها بما يخدم القصة، كالفتاة صاحبة الضفائر، والطفل الذي يقوم برسم الأشباح، والحشرات الطائرة التي تخرج من الفم، وتغير صوت المسكون من الطبيعي للشيطاني، وشعور الحكّة القوية تحت الجلد، والسيدة الطافية في الهواء هي حيل جرى استخدامها بالفعل في عدّة أفلام أجنبية في الماضي؛ مثل: The exorcist، و The shining ، و Hereditary إلّا أن ذلك لا ينقص من أهمية الزيارة بل يرفعه لمصاف الأعمال العالمية ويطرح تساؤلات متعلقة بكيفية التفوق عليه. أمّا فيما يتصل بالتمثيل، فلقد كان أداء دينا الشربيني التي قامت بدور العاملة المنزلية (إنصاف) متواضعاً بالمقارنة مع كبيرتي الساحة اللبنانية: تقلا شمعون، وكارول عبود، لأنّ القديرة تقلا أثبتت - وبجدارة - قدرتها على عدم منافسة إلّا نفسها وذلك باستحواذها على قلوب وعقول المتلقين في دور (مدام كلير) التي تكاملت عاطفتها مع جسدها، وأدّت الشخصية بثقة لا متناهية، وهذا يستند إلى مجموعة مواصفات تتمتع بها بالأساس ألّا وهي: الذاكرة الجيدة، ومهارة الحفظ، وصفاء الصوت، وقابلية الاندماج الكامل بحياة السيدة التي مثّلت معاناتها مع الجن، فيما استطاعت كارول عبود رغم قصر مساحة دورها أن تواظب الصعود في سلم الإبداع الذي بدأته منذ دور نجوى في (تنورة مكسي) عام 2011 وحتى يومنا الراهن. وحريّ بنا التطرّق إلى سيناريو (الزيارة) المولود من رحم ورشة (سرد للكتابة الدرامية) التي تديرها مريم نعوم، والذي استعان بأدوات اللعب على توقعات المشاهدين، ودفعهم نحو مكان معين، ومن ثم مباغتهم بحدثٍ آخر، كالذي حصل في مشاهد مدام كلير وهي (تخبط) رأسها في (مغسلة) الحمام وترفعه رويداً رويداً، أو في مشهد حفر يدها بالسكين، وكليهما مشهدان كان من الطبيعي أن يتلوهما منظر مقزز للدماء ولكن ما حصل كان معاكس لذلك، كما اعتمد السيناريو على ما يسمى الرعب والرعب الموازي، والماورائيات في قصة لقاء إنصاف بجدّتها حليمة التي فسّرت لها أخيراً سر اللعنة، علاوةً على تسليط الضوء على شخصية الكاهن أو العرّاف الذي أُدرج مع كوكبة شخصيات الأدلة التي حرص الكثير من المبدعين على تضمينها في قصصهم، وتقلّدها المميز عبدو شاهين بطريقةٍ أخرجته من النمطية التي كاد أن يوصف بها مع تكراره لبعض الأدوار في الآونة الأخيرة. إذاً نستطيع القول إنّ مسلسل الزيارة انضم مؤخراً إلى: الفيل الأزرق، وما وراء الطبيعة بتنفيذه الجيد، وسعيه خلف توءمة التشويق والرعب ابتداءً بالشارة ومروراً بالصراع ومشاهد الانتقال والتحول المنفّذة بعناية وليس انتهاءً بالتوثيق، متفوقاً على كلّ من: (الحارث)، و(خط الدم)، ومُشكّلاً لعتبة يصعب تجاوزها من ناحية النوع، وخالقاً لحالة ليست الأفضل في العالم ولكن قد تحتل برأي البعض المرتبة الأولى عربياً. ياسمين نبيل حناوي