بالنظر إلى فكرة أنّ أحد أهم العناصر الضرورية لتحقيق نجاح الأفلام هو قابليتها لتحفيز التعاطف الإنساني والمشاركة، وعند استذكار مقولة المخرج الأميركي (هوارد هوكس) التي تؤكد على أنّه: «لكي يكون الفيلم جيداً، يجب أن يحتوي على ثلاثة مشاهد عظيمة، وأن يخلو من أي مشهد سيىء»، نصل إلى نتيجة مفادها بأنّ فيلم «ذنب لا يغتفر» الذي بدأ عرضه في نهاية العام الفائت على منصّة نيتفلكس وحقق المرتبة الثانية من ناحية المشاهدة بعد المسلسل الإسباني الشهير La Casa De Papel، وتصدّر شارته وغلافه اسم الفنانة (ساندرا بولوك) كان جيداً وفق مقاييس: القصة المؤثرة، والتصاعد الدرامي التشويقي، وسيرورة مختلف الخطوط الدرامية للفيلم بهدف خدمة المقولة الأصلية التي يود العمل أن يصل إليها، ناهيك عن الأداء التمثيلي عالي المستوى من دون أخطاء أو تفاوت بين المشاهد مع المحافظة على الاندماج الكامل بالشخصيات الدافعة بالقصة نحو النهاية. ويعتقد المتابعون لأعمال سينمائية وتلفزيونية متعددة بأن فناناً معيناً قد وصل لذروة إبداعه في دور معين؛ ولكنّ التحدي الأكبر عندما لا يقتنع ذاك الفنان بهذه الحقيقة ويسابق ذاته متفوقاً عليها في كلّ مرّة وصولاً إلى ما يضاهي النجومية، وهذا بالتحديد ما حصل مع (ساندرا بولوك) التي لا يتسع المقال للحديث عن مراحلها المهنية المضيئة، ولكن من الضرورة بمكان أن أشير إلى أنها بعد عرض فيلمها (صندوق الطائر) في عام 2018 وتحقيقه 45 مليون مشاهدة خلال الأسبوع الأول من طرحه، وإبداعها طوال كافة دقائقه خاصة تلك التي صوّرت الحياة البرية إلى جوار وخلال نهر سميث سألنا أنفسنا: هل من مزيد في جعبة بولوك الإبداعية؟ لتفاجئنا في (ذنب لا يغتفر)؛ هذا العمل الذي ينتمي إلى الفئة الدرامية المحاطة بأجواءٍ من الكآبة والحزن وبعض السوداوية، والذي تعرّض للكثير من الانتقاد حول بطء إيقاعه في البداية وعدم إضافته أي رصيد للأسماء المهمة التي شاركت به كالمميزة: (فيولا ديفيس)، ولكن السينارست بيتر كريغ مع هيلاري سايتز وكورتيناي مايلز تمكنّوا ببراعة من تكثيف المسلسل البريطاني الذي يحمل العنوان نفسه وصدر في عام 2009 في أقل من ساعتين حافظوا خلالها على النبش في الذات البشرية وسط معوقات اجتماعية وبيئية وحتى نفسية. ولعلّ الإنسانية العالية التي اكتنفت موضوع العمل المتمثل بنبذ المجتمع الجاف والغليظ والمتوحش أحياناً لبعض المواطنين ولصق الاتهامات المسبقة بهم لمجرد صدور أحكام بحقهم ودخولهم إلى السجن، وحتى لو قضوا في غياهبه ما يصل إلى عشرين عاماً؛ فهذه العقوبة لا تكفي لتقبّل المحيط لهم واحتضانهم أو التعامل معهم كأشخاص طبيعيين، خاصة مع كونهم كانوا بريئين بالأساس، وجلّ ما فعلوه هو التضحية بواحدة من أثمن الأشياء التي يمتلكها الإنسان ألا وهي (الحرية). نعم كانت تلك الرواية المفعمة بالأحاسيس الجياشة كفيلة بتحفيز مشاعر الرأفة والمودة والمواساة في نفوس المشاهدين لقصة (روث) التي قضت عقوبتها في السجن بسبب قتلها لشرطي ليتبيّن بعدها أنها لم ترتكب هذه الجريمة بالأساس، وخرجت بإطلاق سراح مشروط محاولةً بشتى الطرق النفسية أن تندمج وتنسجم مع مجتمع قسا عليها وحرمها أفراده من مجرد الاطمئنان على أختها (كيتي)؛ التي تمّ تبنيّها من قبل أسرة ثرية منعت عنها رسائل (روث) لأعوامٍ طويلة؛ ورغم ذلك الحرص من حدوث صدمة معها ولكن الكيمياء الروحية بينها وبين خيالات امرأة وضعت بها النواة الأصلية لحب الموسيقى تسبّب بحصول حادثٍ خطير معها وفقدانها للوعي في نفس يوم إطلاق سراح (روث) الأمر الذي يؤكد حقيقة أنه لا حاجة لتفسير بعض الروابط الروحية التي تجمعنا بأشخاص معينين حتى ولو لم نلتقهم منذ سنين طويلة. والأمر الملاحظ والمبرر بشدّة مع هذا الفيلم هو انشطار الجمهور إلى نصفين تماماً تجاهه، الأول: متعصّب له بعاطفية تنبع من أهمية تسليط الضوء على سمات مهمة كالتضحية والتفهم والتعاطف الإنساني والعدالة والمساواة واللاثأر وعدم الكيل بمكيالين أو التسرع في الحكم الكامل على الأشخاص، وهؤلاء هم روّاد مدرسة الواقعية والمحبّون للدراما مهما بلغت قسوتها خاصة مع مرافقتها لمستويات عالية من التشويق والإجابة على التساؤلات الغامضة سؤالاً تلو آخر؛ وصولاً إلى لحظة التنوير التي تُساعد بها المحامية (التي هي أمٌّ في الأساس) روث من أجل اللقاء بأختها أخيراً. ذاك اللقاء الذي يحجبه خطف ابن الشرطي القتيل لأخت (كيتي) بالتبني، ما دفع ب(روث) أن تفعل المستحيل لإنقاذها بعد حوار فلسفي عميق لينتهي العمل بلقاء كيتي بروث وعناقهما من دون أن نفهم ماهية هذا العناق بالتحديد إن كان يصب في إطار امتنان كيتي لهذه السيدة المجهولة، أم عثورها المنشود على المرأة الحلم. أمّا الفئة الثانية: فهم أولئك العقلانيون الذين يزنون كلّ شيء بمقياس التفكير المتمحّص والتحليل العميق، لذا لم يكن من المحبّذ بالنسبة إليهم أن يثق المحامي بسيدة مريبة ويدخلها إلى منزله على الفور من دون مبرر درامي قوي، أو أن يقع زميل روث في معمل المأكولات البحرية في حبها من النظرة الأولى وهي التي تكبره بسنين طويلة، وأيضاً عدم إخبار (روث) للشرطة بحقيقة أن أختها البالغة من العمر خمس سنوات هي من أطلقت النار؛ حيث لم يكن منطقياً أن تُنهي حياتها بهذا الشكل الانفعالي المؤذي، وبالتالي لم يكن الفيلم برمّته من الفئة المفضلة بالنسبة إليهم. إذاً فإنني أجد أن (ذنب لا يغتفر) كان فيلماً دافعاً إيانا للتفاعل معه بملء حواسنا، بعد أن وضعت فيه (ساندرا بولوك) -بدورها المُركّب- من ذاتها وروحها الشيء الكثير، فشعرنا بما شَعَرت به من تردد وضياع وخوف وهمٍّ ومقاومة في دلالةً على احترافية متصاعدة، وساهمت المخرجة الألمانية (نورا فينغشايدت) في خروجه بصورةٍ إبداعية من نواحي أماكن التصوير الواقعية، والحرص على إدخال الموسيقى في أجوائه المشحونة، وفي ترجمة خطوطه المعقدة، مع استخدام تقنية العودة إلى الوراء كلّما استدعت الحاجة، وأدّى فيه كل من: (فينسينت دي أونوفريو)، و(جون بيرثال)، و(أيسلينغ فرانسيوسي)، و(روب مورغان)، و(ريتشارد توماس)، و(ليندا إيموند)، و(إيما نيلسون) أدوارهم بعناية، وفق إنتاج معقول كان من مسؤولية كلّ من: (ساندرا بولوك) و(فيرونيكا فيريس) و(غراهام كينغ)، ونصٍّ كان بمقدوره أن يسد ثغرات البطء الإيقاعي وسطحية بعض العلاقات، ولا منطقية بعض التصرفات بمزيدٍ من التأني والبحث عن مبررات درامية أكثر قوة فيكسب بالتالي كلّ من أنصار العقل والعاطفة.