تتسع مساحة جهل الإنسان كلما زاد علماً وثقافة، والسبب أن ما أحاط به من العلم كشف له حجم المساحة الهائلة من الجهل التي لا يعرفها في ذلك العلم على وجه الخصوص، فكيف بالعلوم الأخرى التي لم يطلع عليها؟ وجهل الإنسان بعلم أو مجال معين أو مسألة بعينها لا يعيبه، بل المطلوب منه أن يسعى لرفع الجهل عن نفسه بالاطلاع والسؤال والإصغاء. وقد سئل الأصمعي: «بما نلت هذا العلم؟ فقال: بكثرة سؤالي، وتلقفي الحكمة». (كتاب آداب المتعلمين: الدكتور. أحمد الباتلي). قياساً على ذلك، تكون أهمية التحصيل والتعلم في بقية التخصصات والعلوم. لا أدري لماذا يستحي البعض من كلمة (لا أدري) أثناء الحوار أو النقاش في المجالس أو في بيئات العمل وغيرها، فهناك من يحاول الإجابة عن كل سؤال، استفسار، موضوع، مشكلة، أو أي حادثة وقعت! حتى ولو لم يكن متأكداً من إجابته، فقط يريد أن يدلي بدلوه، فهل ذلك حب ظهور؟ أو خوف على المظهر بعدم المعرفة؟ أم فضول وشهوة لدى الشخص يحاول إشباعه اثناء الحديث؟ أم يظن أن الادعاء بالمعرفة يجعله في صورة لائقة أمام الآخرين؟ أم هو تعالٍ وكبرياء يرفض أن يقول لا أدري! للإمام مالك قصة تكتب بمداد الذهب: فعندما جاءه رجل، وهذا الرجل له مكانه وقدر، فسأل الإمام مالك مسألة: فقال له: لا أدري. فقال الرجل: إنها مسألة خفيفة وأريد أن أعلم الأمير بها. فغضب الإمام مالك ثم قال: مسألة خفيفة لا يوجد في العلم شيء اسمه مسألة خفيفة ألم تسمع بقول الله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا). (كتاب الموافقات للشاطبي: الفتوى عند الإمام مالك). قد يقول قائل هذا في العلم الشرعي وليس العلوم الإنسانية، في رأيي لا يوجد فرق بين أن يكون الإنسان مدعي المعرفة في العلوم الشرعية أو العلوم الإنسانية سوى في الإثم والعقوبة المترتبة في العلم الشرعي كما قال تعالى: (ولَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)، أما العلوم الإنسانية فقد يسميها الإنسان رأياً أو خبرةً أو تحليلاً أو غير ذلك. لكنه في نهاية المطاف يحاول أن يقول ما لا يعلم، فقد يفتري على العلم والتخصص، ولا سيما مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت سهولة وسرعة تدفق المعرفة الموثوقة وغير الموثوقة. اندفاع الناس وتسابقهم نحو طرح آرائهم وتوقعاتهم في كل ما يقال ظاهرة متفشية إلى حد ما، ولها أسبابها ومن أهمها: الأول: ظن الإنسان بأن الكلام خير من الصمت، الثاني: يعتقد بأن الناس لا يميزون بين الآراء التي يسمعونها، الثالث: حب الظهور له دور كبير، الرابع: أحياناً الغيرة تدفع الإنسان للحديث فيما لا يفقه بسبب وجود شخص أكثر وعياً منه، الخامس: غياب قيمة التواضع فالسنابل الفارغة هي الأكثر حركة كذلك الأقل معرفة هم الأكثر كلاماً، السادس: عدم معرفة قيمة العلم ولهذا تراه لا يفرق بين الشخص المتعلم وغيره، فالناس في نظره سواء إلا ما وافق هواه. ينبغي أن تكون في قصة موسى عليه السلام والخضر التي نتلوها ونقرؤها كل أسبوع، ألم تعطينا درساً في أهمية البحث عن المعرفة بدلا من ادعائها!.