الإنسان مرتبط دائماً ببيئته، يشكلها وفق عاداته وتقاليده والظروف المناخية والتقنية المحيطة به، لذلك فإن التغيرات التي تطرأ على الإنسان تنعكس مباشرة على بيئته. مدن المملكة التي ظلت سنوات طويلة لم تشبهها متغيرات تستحق الذكر، أصيبت بصدمة حضارية أوجدتها المتغيرات الاجتماعية الكبيرة التي حدثت منذ العقد الثالث من القرن العشرين، نتيجة للمتغيرات الاقتصادية التي واكبت اكتشاف النفط بكميات تجارية، بل وأحدثت هذه المتغيرات خللاً واضحاً في نظرة المجتمع لكل ما هو قديم، ورفضه لفترة محدودة من الزمن، كانت كفيلة بأن تضيع علينا جزء كبير من تراثنا الاجتماعي والثقافي والعمراني، فبالإضافة لضياع جزء كبير من تراثنا العمراني الحامل للنواة الإبداعية المستقبلية، لم تستطع البيئة العمرانية المعاصرة فهم المتطلبات الاجتماعية الراسخة للمجتمع، مما نتج عنه تناقضات عمرانية واضحة تشهدها المدن. د. خالد الطياش هذا ما ذكره الدكتور المهندس «خالد الطياش» في بداية حديثه عن الهوية المعمارية، وتابع قائلاً: إن التحول الاجتماعي الذي طرأ على المجتمع أوجد متغيرات كبيرة، خصوصاً على مستوى النسيج العمراني، هذه المتغيرات كان لها أثر واضح في تغيير بعض القيم الاجتماعية للإنسان في المملكة، ولكن لم تستطع أن تقضي على هذه القيم من جذورها، لأن مخزونها استطاع أن يواجه هذه المتغيرات، وذلك لوجود عوامل ثبات كان لها الأثر الكبير في ضبط وترشيد التحول الاجتماعي، مضيفاً أن أهم هذه العوامل هو الدين الإسلامي الذي جعل التحول الاجتماعي يحدد بنفسه الحدود التي يجب أن يقف عندها، حتى لا تصل الأضرار إلى نواته الأخلاقية، ويحدد المدى الذي يكون أثر هذا التحول إيجابياً في تدعيم العلاقات الاجتماعية والترابط الاجتماعي، مشيراً إلى أن هذا المخزون القيمي كان لابد له من مساندة قوية من النسيج العمراني مسرح التفاعل الاجتماعي، إلا أن التحول الكامل والسريع للنسيج العمراني في مدن المملكة كان عامل ضغط سلبي على مخزون القيم، وأوجد متناقضات متعددة لعدم التكافؤ الناتج بين تلك القيم والبيئة العمرانية المعاصرة. وأضاف التغير في نمط المعيشة الذي جربه المجتمع في النصف الثاني من القرن العشرين غالباً ما يفسر على أنه تغير في مخزون القيم المؤسسة لشخصية المجتمع، والواقع أنه لا يمكن أن يتغير مخزون القيم تبعاً لتغير نمط المعيشة، لأن هذه القيم يمكن أن تتشكل في أنماط معيشية مختلفة، والمجتمع يتخذ من الإسلام أسلوباً للحياة ويتجلى ذلك في محافظة أفراد وجماعات المجتمع للقيم الاجتماعية والدينية، رغم المتغيرات في نمط المعيشة التي مرت على المملكة، ذاكراً أن حالة عدم التوازن المتولدة بين مخزون القيم المستمرة والمعطيات الفيزيائية المحدودة التي توفرها بيئتنا العمرانية المعاصرة، هي السبب الرئيسي وراء هذه التناقضات التي تشهدها هذه البيئة في وقتنا المعاصر، فالخصائص التي يحتويها مفهوم التقاليد أساس فكري نشأت من خلاله تلك المتناقضات العمرانية الحديثة، لافتاً إلى أن العديد من الباحثين حاول تعريف التقاليد واتفقت معظم تلك التعريفات على أنها لا تقتصر على الإرث الفيزيائي القديم، ولكنها مجموعة من القيم المتوارثة تحتوي على مخزون معرفي كبير، يمكن أن يكون مصدراً لثقافة مستقبلية عظيمة، ففي الماضي أدى تأقلم السكان المحليين مع البيئة إلى إيجاد تكوين من المساكن تعبر خواصه عن نجاحهم في خلق مناخ ملائم للحياة، في ظل الظروف المحيطة وتنسجم مع الطبيعة والأنظمة. وأوضح «د.الطياش» أن موقع بلادنا في منطقة تعتبر مناخياً جافة وحارة وذات بيئة صحراوية قاسية، نجد أن المواطن تجاوب معها عندما تخلى عن حياة الارتحال واستقر وأخذ يشيد لنفسه المسكن ويعيش في المدن، لتترك البيئة الصحراوية أثرها في نمط الحياة والعمارة فيها، وبناء على ذلك لا يكون من المستحسن بناء مسكن تفتح أبوابه ونوافذه إلى الخارج على مستوى الأرض لتطل على البيئة الطبيعية المجاورة، مضيفاً أن العنصر الوحيد المعتدل في مثل هذه البيئة هو السماء التي تعطي البرودة في الليل ويكون المنزل مفتوحاً ومعرضاً إليها عن طريق فناء سماوي، فالمنازل في نجد من الطراز الذي يتضمن فناء سماوياً مركزياً، مثلها في ذلك مثل المنازل الحضرية التقليدية في الأصقاع والمناطق الحارة الجافة الأخرى، وقوام هذا الطراز هو كون كل منزل عبارة عن صندوق مربع الشكل مفتوح إلى الفضاء وحجراته ضيقة مرتفعة السقف تحف بالفناء ويحف بها الجدار الخارجي، والنوافذ تكون صغيرة جداً وأبواب تفتح إلى الفناء السماوي المركزي، لافتاً إلى أن كل هذه العوامل الفيزيائية والاجتماعية والثقافية والرمزية أوضحت أهمية وخصائص تجربتها الجمالية، ولقد أدت عملية فرض التفسيرات المختلفة الخاصة بالخواص الجمالية المعمارية، إلى حدوث فوضى في عدة أماكن وتدمير شامل لكافة الأنظمة الاجتماعية والثقافية والتي هي نتاج طبيعي لعملية تطوير قابلية الدعم والمساندة. وأكد «د. خالد الطياش» أنه لإبراز ما هي المشكلة؟، يمكن القول: إن المدن تعاني من مشاكل معقدة مثل فقدان الهوية المعمارية والعمرانية في تصميم المسكن، وتبني طرز معمارية غريبة عن البيئة لا تتناسب مع المخزون الثقافي والحضاري الذي يملكه المجتمع، ولا يفي بمتطلبات الحياة الاجتماعية والثقافية وطريقة المعيشة، بالإضافة إلى استخدام مواد بناء غير مناسبة ولا تنسجم مع المناخ المحلي، إلى جانب التأثير السلبي الاجتماعي والاقتصادي لهذا النوع من العمران، وزيادة الهوة الاجتماعية والثقافية بين أجيال المجتمع الواحد.