"وصل النمو الاقتصادي الذي يعتمد فقط على السيارات والصناعات الإلكترونية الاستهلاكية إلى نقطة تحول، لا يمكن لليابان أن تنجو من المنافسة الشديدة المتزايدة مع الاقتصادات الناشئة من خلال خفض تكلفة الإنتاج فقط، يجب أن تجد اليابان نهجاً جديداً لضمان التوظيف والفرص للشباب، وللشركات المتوسطة والصغيرة، وكذلك لتحقيق النمو الاقتصادي في المستقبل". وردت هذه الجملة الصريحة في التقرير المنشور لوزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية في يوليو عام 2012م في إطار سعي الحكومة لإيجاد مصادر دخل قومية جديدة للبلاد، حينها عزمت الحكومة اليابانية على التغيير من دبلوماسيتها وتصميم خطة شاملة لتطوير استراتيجية العلامة التجارية الشاملة لليابان من خلال الاستثمار في عناصر قوتها الناعمة النابعة من الداخل. لطالما ارتكزت اليابان على ثقلها الاقتصادي وتقدمها التقني لخدمة مصالحها العليا، ولطالما حرّكت أذرعها الخارجية المتمثلة في برامجها الإنمائية ومساعداتها الاقتصادية لتعزيز نفوذها وحماية مصالحها من خلال دعم الجهود الرامية لترسيخ الاستقرار والسلام حول العالم، بعد "اتفاقية بلازا" والتي كانت قد شكلت منعطفاً مؤلماً في طريق صدارة النجم الياباني على الساحة الاقتصادية، تحّول الميزان التجاري لصالح الولاياتالمتحدة ودخلت اليابان مرحلة تقارب ثلاثة عقود ضائعة من الانكماش والركود الاقتصادي، زاد الطين بِلَّة تفاقم الأثر الناتج عن اختلال التركيبة السكانية بتناقص عدد المواليد وارتفاع نسبة الشيخوخة، فكان لزاماً خلق قنوات لمصادر دخل جديدة لدعم ركائز الاقتصاد الأخرى ومواجهة المنافسة المتصاعدة. وكجزء من خطتها لتطوير الصورة الذهنية لليابان، أطلقت الحكومة استراتيجية "اليابان الرائعة" (Cool Japan) والتي تهدف إلى إعادة تقديم اليابان إلى العالم في قالب مفعم بالحياة والمرح، وذلك عبر الترويج لشريحة عريضة من العناصر والموروثات الثقافية كقوة ناعمة ومنها: المطبخ الياباني التقليدي والألعاب، والأنمي والمانجا، والأفلام والبوب الياباني، بالإضافة إلى الأزياء والفنون القتالية والروبوتات والتقنيات الصديقة للبيئة، وعينت وزيراً في مكتب مجلس الوزراء للإشراف المباشر على تنسيق الجهود بين مختلف الجهات الحكومية للترويج لهذه الحملة، ورصدت ميزانية سنوية قُدِّرت ب (173 مليون دولار أميركي) في عام 2011م، لترتفع إلى (434 مليون دولار أميركي) في عام 2020م. كما أُطلق "صندوق اليابان الرائعة" (Cool Japan Fund) في عام 2013م وهو صندوق للاستثمار في الأعمال التجارية التي تعزز تنمية الطلب على المنتوجات والخدمات اليابانية، واستثمر الصندوق منذ ذلك الحين أكثر من (870 مليون دولار أميركي) تقريباً في نحو 50 مشروعاً على مدار السنوات الثماني الماضية، واليوم وبعد مرور ما يربو على عقد من الزمان منذ إطلاقها، ورغم بعض الانتقادات، حققت حملة "اليابان الرائعة" نجاحاً انعكس على المزيج الاقتصادي بشكل لافت. حيث زاد الطلب الخارجي على مختلف المنتوجات اليابانية بشكل ملحوظ، وارتفعت قيمة سوق الرسوم المتحركة، وازدادت معها شعبية دولة اليابان كوجهة سياحية؛ حيث ارتفع عدد الزائرين الأجانب بنسبة تتجاوز 200 في المئة! اُستُلهِم اسم حملة "اليابان الرائعة" من حركة "بريتانيا الرائعة" (Cool Britannia) - نسبة إلى بريطانيا - والتي تشّكلت في التسعينات الميلادية للترويج للثقافة البريطانية. كما نرى أمثلة أخرى عديدة حول العالم لدول اختارت المراهنة على حصان القوة الناعمة وذلك بعد أن انحسر تأثير الجغرافيا السياسية لصالح الجغرافيا الاقتصادية؛ أو بمعنى آخر من "القوة الصلبة" إلى "القوة الناعمة". أما السعودية فتهدف "لتطوير المحتوى الخاص بها ضمن إطار "السعودية الكريمة" (Warm Saudi)، وفقاً لما نشرته وثيقة الرؤية السعودية اليابانية 2030. ومع انطلاق المرحلة الثانية من تنفيذ "رؤية المملكة 2030" نرى الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات، بدءًا من تطوير الوجهات السياحية والإطلاق الناجح للعديد من حملات الترحيب بالسياح حول العالم، مروراً بتسجيل المواقع والعناصر الثقافية في القوائم التمثيلية لليونيسكو، واستضافة المجلس العالمي للسفر والسياحة، واحتضان البطولات العالمية كبطولات الفورمولا في جدة والدرعية، ونزالات المصارعة الحرة، وإطلاق مواسم الترفيه، والاستثمار في الأندية الرياضية العالمية، وبناء المدن الذكية والصديقة للبيئة في نيوم وأمالا والبحر الأحمر، وليس انتهاءً بصناعة الأفلام ونشر مجلات القصص المصورة المستوحاة من الثقافة السعودية، كل هذه المشاريع العظيمة وغيرها بمثابة الوقود لبلدوزر التنمية الذي مهد الطريق للحصان السعودي ليشرع بالجري ساعياً للظفر بالمراكز المتقدمة في مضمار التنافس، ليضع المملكة في المكانة التي تليق بها على خارطة الثقافة العالمية. د. م. خالد آل رشود