التماس الأعذار للناس وحُسن الظن بهم من الأعمال الأخلاقية الجليلة، والقيم الاجتماعية الأصيلة التي يحبها الله عز وجل، وطبقها الأنبياء والصحابة والعلماء والنبلاء على مر العصور. فالتماس العذر للآخرين عند صدور قول أو فعل يسبب لك ضيقا أو حزنا يعتبر من خلق الكبار، لأن سوء الظن له آثار اجتماعية سلبية فهو من الأمور التي تقوم بزعزعة العلاقات الاجتماعية، وخنق المشاعر الإنسانية، ويقوض دعائم الرحمة والإحسان، ويهدد الاستقرار والأمان في الحياة الزوجية، وهذا السلوك المشين الذي يتنافى مع قواعد الضبط الديني والأخلاقي كاللغم يدمر كل شيء جميل في حياتنا، وما أجمل أن نتمهل قبل إصدار الحكم، ونطلق خيول التماس الأعذار لهم في مضامير العلاقات الإنسانية؛ لأن حُسن الظن والتسامح والتمس العذر للغير من القيم الفضيلة التي حثنا عليها ديننا الإسلامي القويم وهي عبادة جليلة من العبادات، وأدب رفيع من آداب شريعتنا السمحة، فقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يلتمسون العذر في المواقف والأحداث لأنهم يعلمون أن الإنسان بشر يخطئ ويصيب، وأن أخطاء البشر أكثر من صوابهم، ولعل قصة النبي يوسف عليه السلام مع إخوته الذين حاولوا قتله ورمُوه في ظلمة البئر، وسجن سبع سنوات، وغاب عن أبيه 40 سنة ثم ينتقل فوراً إلى مرحلة رجل الدولة ليكون المسؤول الأول عن خزائن الأرض في مصر، مع ذلك عندما ذكرّهم بجريمتهم: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ) فقوله: (إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ) ظاهر في التماس العذر لهم على فعلتهم الشنيعة، ثم بعد ذلك قال لهم: (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فما نسب العفو والتسامح لنفسه تأدباً مع الله من جهة، وكيلا يشعرهم بتفضله عليهم من جهة أخرى، وهذا لا مناص قيم رفيعة من الخلق النبوي نادر الوجود وصعب المنال، وأيضا نذكر هنا قصة النملة مع النبي سليمان عليه السلام في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْل قَالَتْ نَمْلَة يَا أَيّهَا النَّمْل اُدْخُلُوا مَسَاكِنكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَان وَجُنُوده وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }. نادت النملة ثم أمرت ثم حذرت، ثم أعذرت في قوله تعالى (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، التمس العذر لسليمان وجنوده لكونهم لا يشعرون. دعونا نتأمل حال النملة وهي حشرة صغيرة لا تملك القوة والعقل ما يملكه بني البشر فما أروع رجاحة عقلها، وتأدبها وحسن ظنها بنبي الله وجنوده في حين نجد البعض يتسلط على الآخرين والتدخل في نيات لم يؤمر بها، والسعي خلف الظن السيئ، وتحريش وتحريك الشيطان قال صلى الله وعليه وسلم (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في الجزيرة العربية، ولكن في التحريش بينهم)، وما أجمل الشعار الأخلاقي الذي رفعه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال مقولته الشهيرة ذات الدلالات الاجتماعية بأبعادها الدينية والتربوية والنفسية: (لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا) أي ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، وأخيراً ومن أجل المحافظة على علاقاتنا الاجتماعية، وروابطنا الأسرية؛ ليكن منطلق سلوكنا الحضاري، ومنهجنا الأخلاقي، وتفاعلنا الاجتماعي من مضمار (التمس الأعذار للآخرين). *باحث متخصص