«جائحة كورونا»، «وباء كورونا»، «كوفيد (تسعة عشر)»؛ ما هي إلا مسميات، ولعنة تجر الآهات؛ تصطاد ما لذَ وطاب من أنفاس البشر. بين ليلة وضحاها، نودع الأحباب بدموع الحسرة، تعبس الشمس جبينها، في ذاك المشفى أو المنفى لا فرق، المهم أني غفوت على أنيني، ثم أفقت على أغطية بيضاء تحاكي الموت بلون الكفن، قياس ضغط وحرارة، جفاف في الحلق ومرارة، عينات دم، أُكسجين، وحقن تتمرد على الموت تتسلل أوردتي، وهَن على وهَن تلبس جسدي، بت لا أدري؛ اختلط الأمر عليّ بين ممرض ورفيق، عامل نظافة وطبيب، ويحهم ماذا يرتدون؟! ما هذا الزِّي الذي يوحدهم؛ قفازات وكِمامة، وهامات مرتبكة، دونما عناء يَتَحَدون المجهول، بشفاه يتهامسون، وبتلك العيون المنقبة يتغامزون، وبتمتمات كلام غير مفهومة يتشاورون، يقرؤون، وبكل حيرة يذهبون. لا قريب هناك ولا حبيب، إنما تساؤل غريب مهيب؛ أأنا على سطح القمر؟ أم في متاهات المريخ؟ ربما، بل أجل؛ سمعت بذات يوم خبرًا يقول: «إننا سنسكنه»، ويحي؛ هل أنا أول الحاضرين، لا جواب يشفي الغليل، فهمت الآن أني أتنقل على أسرة الاحتضار؛ من سريرٍ إلى سرير أُحتضن الرمق الأخير. بت أهذي، حاولت النهوض لأقيم على سرير الموت صلاتي رنين هاتفي قاطع أنيني وسؤالي، ويحي؛ إنهم أولادي، بالجوف حسرة وعلقم، وهمٌّ ثقيل، إذا ما المرض عليّ تجبر، ما عساي أقول؟ بصوتي المبتور وجع وآه، بتلك الغيمة أشباح الصور تنقض على صدري، أجل في القلب غصة نبض، ومقصلة تقطع من العمر شراييني، كوفيد، يخطف الكل دون تمييز؛ الشاب، المسن، والوليد، وجنين برحم أمه شهيد. شهر وأكثر بحزنه أكبر، سلمت أمري إلى الله سبحانه وتعالى، أخذت حيزي من المكان، كرفان، غرفة إنعاش، وغربة، اغتربت بها حد الانفصام، انسجام لبرهة، أجل ألِفَني الزمان بسكونه، وأخذني المكان بهدوئه، وبصمت وحشتي أتنفس الصعداء في كل لحظة، تعتصرني الأمعاء، وتلك الشمطاء تصرخ لتدس الهرم بعقلي وقلبي. وساوس شيطانة تدب الرعب داخلي؛ سأموت لا محالة، أجراس تدق وكأنها تدرس القمح برأسي، ويأتيني الخبر: ابناك أيضاً مصابان؛ ويلي أصبت بالجنون، كيف لا؟ فهما ابني وبنتي، ألا يكفي أمُّهما؟ أخراب وموت ينعق في الديار، خلف الباب بعين الأيام همٌّ يبكي، أنهار من الدموع كأنما تنساب من السفح لتجرف ما تبقى من رافدِ مرقدي، وصوت من الأعماق يناجي: يا رب: أهو امتحان إيماني بقدري؟ اللهم فاجعله أجراً وعافية لي، وحسنة في ميزاني يوم ترجف الراجفة، أو حتى إجابة لذاك السؤال في قبري. وفي لحظة هدوء، اجتاحني الرحمن بكرمه، أدخل لقلبي السكينة ما أعظمه، أصبحت للطاعة قريرة؛ أشكرك ربي ما أرحمك. وبين مد وجزر، بين شفاء وعزم، جاءت اللحظة الحاسمة تمتحن فيَّ صبري، بيني وبين الموت نفحة؛ أنابيب تستأصل من فضائها الروح، هأنذا مرةً أخرى على الوعد بالأمل أحيا. وفجأة من خلف الزرقاء بصوت الحنان نادتني؛ إنها أمي، بذاك الوجه بدراً يحنو على السماء بضيائه، تتكلم وتبتسم، في عينيها رغرغة حنين تدوس بها على الوجع، من البعيد القريب أتت أمي، عبر تلك الشاشة تطبطب على قلبي، تهدهدني، تشد ذيل المسافات لحضنها حتى خفق ببن أضلعي نبضها. وها هم إخوتي قطعة من جنتها، وأمان أبي إذا الخوف عليّ تجنّى، وجههم الصبوح يسري بمأمن دمي، غادروا، وغادرت المكان أمي، هاجمني فراغ بعمق الكون، سؤال يختلج فكري، لم َذهبتِ؛ هشاشة على وشك الانكسار تركتِ، ودون إياب رحلتِ؛ ويأتي لابس البياض ليسأل ويجيب عني، دَوَّنَ خروجي في دفتر كنت قد أتيت به في جبي، ثم تابع: ألف سلامة، أظنك الآن تعافيتِ. لم تسعني الفرحة، لم يزل لي في الدنيا نصيب، وكأني أطير من السماء للأرض، لأغرف من جيب الظلام نورًا بكفي. أجل خرجت، والفرحة تعلوني ووجهي. فيا رب لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا. * عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين