ظلّت فكرة الفن التشيكلي ردهًا من الزمن رهينة المنظور الجمالي في تكريس الأعمال لبعث السرور والغبطة في المتلقين، ولكنّ المشتغلين في النقد والاصطلاح ظلّوا مهجوسين بالأسئلة وتداول الآراء حول ماهية الفن التي استعصت على الإجماع. فثمة متغيرات تعصف بالتثبيت المنشود، منها: الزمن وطبيعة العمل الفني ومكوناته، ويدخل المتلقي طرفًا في إثبات أو نفي الفنّ عن العمل بالكُلّية. كما لا يمكن اعتبار المَشاهد النموذجية للطبيعة، أو التكوين العشوائي من الحجارة الناتج عن انهيار بناية سكنية، عملاً فنيًّاً بالمقاييس الفلسفية للمصطلح، ببساطة لأنّ أحد أهم شروط العمل الفني أن يكون نشاطًا إنسانيًا حرًا واعيًا. وعلى الرغم من اتضاح بعض معالم المصطلح إلا أنّ تحولات عدّة طرأت على الفنّ فأرجأت ثبات الاصطلاح، وعادة ما تكون التحولات إثر أحداثٍ سياسية واقتصادية، تعمل بمثابة الزلزال ذي التوابع، ولعلّ أهم ما طال مفهوم الفن كان في مطلع القرن الماضي على يد الفرنسي مارسيل دوشامب عندما نقل التركيز من البصري البحت إلى النفسي المعقّد. لم يأت ذلك من فراغ، فقد كان لقراءاته دور جذري على نتاجه الذي ظلّ موضع جدل دائم، ففي وقت مبكر قرأ دوشامب كتابًا فلسفيًا لماكس شتيرنر «الأنا والخاصة»، ووصفه بالرائع الذي لا يقدم أي نظريات رسمية، لكنه يستمر في القول: إن الأنا موجودة دائمًا في كل شي. تتوالى الاتجاهات الفنية بأفكارها الجدلية فيبرز في منتصف القرن العشرين الاتجاه التقليلي «المينيمالزم»، المستند على الإنقاص والحذف لتحسين العمل الفني فلا يبقى إلا الأُس، أو ما يجب أن يُرى في العمل، ما يعني المباشَرة وسحب صلاحية التأويل. عَوْدًا على التوابع التي تخلف الزلزال، تأثرت الحركة الفنية بدولة الإمارات على يد أحد روادها الأوائل، الفنان الراحل حسن شريف، الذي تبنى انقلاب المفاهيم الفنية، ساعده في ذلك الانخراط السريع -بعد قيام الاتحاد- في مجتمعات ما بعد الحداثة، فأفرز الحراك الثقافي والأنشطة الفنية، مجموعة فنانين اختطوا لأنفسهم مساراً جلياً منذ الخطوة الأولى، تكبُر فيه المكتبة بالتوازي مع المخيلة، وينبثق العمل الفارق من الفكرة، ثم ما يلبث أن يدمغ وعي المتلقي بأبعاده الفلسفية العميقة. يعدّ الفنان حسين شريف -الشقيق الأصغر للراحل حسن شريف- أحد أوائل المجرّبين لفنّ ما بعد الحداثة في الإمارات، ولو تأملنا أعماله الأخيرة سنتمكن من عدّ مكوناتها على أصابع اليد الواحدة، ولو التفتنا حولنا لوجدنا المواد في كل مكان، فلربما لا تشكل هذه الأعمال فنًّاً لدى شريحة تقليدية من المتلقين، لكنّها تكشف حقيقة تغلغل الهامشي والدارج في صيرورة الحياة وتشكيل الأفكار، يسعى الفنان لتسريع أثر الزمن على المواد عامدًا بالصدأ والتآكل في المعدن، ويلخص علاقته بتلك الأعمال فيقول: «الأشياء التى تحيطني والقريبة جدًا، هىي مادتي الخام، هي ما يهمّني توافرها بيسر، فلستُ معنيًّاً بالأشياء البعيدة، أمّا القريبة جدًّاً أستطيعُ من خلالها تلمس الحقيقة واللحظة التى نعيشها، هي وعاء الماضي والمستقبل. ما يهمني في الفن هو الثورات التي حصلت فيه فمنحت الإنسان الحرية الفائقة، وأعطت الفنان الحق بأن لا تكون إنجازاته خارقة وموغلة في الروعة والإبهار، بل كلّما قلت شهرته وبراعته، كان ذلك أفضل وأنقى وأشدّ تأثيرًا». لم يعد العمل الفني وخاصة ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، يخضع لأُطر وقوانين علم الجمال واصطناع البهجة، فيمكن للفنان بعمل مفاهيمي بسيط أن يستبدل ما يرجوه المتلقي العام من جماليات تقليدية منوطة بالعمل، بوجهة نظر الفنان الخاصة المؤسَسة على رؤيته الفكرية للحياة ومجرياتها، مُصدّراً للعالم الفكرة الخالقة لتأملات عميقة تمهد لرؤى فلسفية قابلة للمداولة والنظر. وجوه - عمل للفنان حسين شريف مشارك في آرت دبي 2021 شخوص من أسلاك حديدية - عمل مشارك في آرت دبي