إنّني لا أرى فرقاً كبيراً بين قدرة الإنسان على اصطناع اللغة وقدرته على اصطناع الحضارة وما صاحبها من مكتشفات وعجائب اختراع، فالله تعالى أودع في خَلْقه القدرة، وهم الذين تولوا بعد ذلك الاستفادة منها والانتفاع بما فيها.. طَوْرانِ من أطوار البشرية مشهوران، يتحدث عنهما الجميع، ويلتمس آثارهما الكافة، هما طَوْرُ ما قبل الكتابة، وطورُ ما بعدها. شَغل طائفة من الكتّاب أنفسهم في هذين الطورين، فذهبت جماعة تبحث عمّا جرّته الكتابة على البشر، وذهبت أخرى تتلمس محاسن ذلك وحسناته، وكلٌّ يجد نصيره في رأيه ووَلِيّه فيه. وممن شُهر بعدم الكتابة الأستاذ سقراط، الذي لم يترك أثراً ولم يُعرف عنه ذلك، بل كان يدعو إلى التجافي عنها، وكان تلميذه أفلاطون في أول أيامه مثله، ثم جنح إلى تدوين العلوم والدعوة إليه، وفي هذا يقول الفارابي في كتابه (الجمع بين رأْيَي الحكيمين): "وذلك أن أفلاطون كان يمنع، في قديم الأيام، عن تدوين العلوم وإيداعها بطون الكتب دون الصدور الزكية والعقول المرضية". وثمت طوران غير مَشهورَين، ولم يحظيا بما حظي به الأولان، وهما طور ما قبل اللغة، وطور ما بعدها، وهما طوران ما زالت الخليقة تعيشهما، وتُشاهد الاختلاف بينهما، فطور الطفولة في أنحاء العالم كله محسوب من الأول، وطور ما بعدها معدود في الثاني، ونحن أمام هذين الطورين طائفتان؛ الأولى: تذهب إلى أن أصل اللغة توقيفي، ومنهم ابن فارس ونسبه ابن جني إلى شيخه الفارسي، وعلى مذهبهم لا يكون للطور الأول وجود، فليس هناك فترة زمنية خلت من اللغة في تاريخ الناس. والطائفة الثانية: تميل إلى أن أصلها تواضع واصطلاح، وهو اختيار ابن جني، وعزاه إلى أكثر أهل النظر في خصائصه، وعلى مذهب هؤلاء يكون الطوران موجودين، وتكون البشرية مرت بمرحلتين، مرحلة ما قبل اللغة، ومرحلة ما بعدها، وعلى هذا يُساق حديث الفلاسفة، وأقصد بهم تحديداً أعلامها الأولين سقراط وأفلاطون وأرسطو، فهم يرون أنها تواطؤ وتواضع واصطلاح، وفي هذا يقول أرسطو في كتاب (العبارة) عن الألفاظ والخط: "ولذلك كانت دلالة هاتين بتواطؤ لا بالطبع". والناظر في ما تقدم (ورأي ابن درستويه فصل "ما" الموصولة عن حرف الجر هنا) يجد أنّ الفلاسفة يذهبون مذهباً يُخالف القول بالتوقيف، وهم وأكثر أهل النظر الذين ذكرهم ابن جني يميلون إلى أنّ الإنسان اصطنع اللغة لنفسه، وبذل فيها جهده، ومع أنني لا أحب الخوض في هذه القضية الآن إلّا أنّني لا أرى فرقاً كبيراً بين قدرة الإنسان على اصطناع اللغة وقدرته على اصطناع الحضارة وما صاحبها من مكتشفات وعجائب اختراع، فالله تعالى أودع في خَلْقه القدرة، وهم الذين تولوا بعد ذلك الاستفادة منها والانتفاع بما فيها. نعم، ذهب الفلاسفة إلى أن أصل اللغة تواطؤ، وإن كانوا قد طرحوا فكرة التوقيف، وتناولوها كما صنع أفلاطون في محاورة كراتيليوس التي هي محل هذا المقال والذي قبله، بيدّ أنهم -وحديثي هنا عن سقراط وأفلاطون- لم يرتضوا هذا المذهب، ورأوا أن القول به قول غير علمي، ومرادهم في ظني أن القول بهذا لا يُمكن الوقوف على دليله والتأكد منه، وشبيه بهذا ردُّ ابن جني على شيخه الفارسي حين استدل على التوقيف بقول الله عز وجل:«وعلّم آدم الأسماء كلها» قائلاً عن الآية الكريمة: "وهذا لا يتناول موضع الخلاف". لم يبق بعد ترك القول بالتوقيف سوى القول بالتواطؤ والاصطلاح، وأنّ البشر هم صنّاع لغتهم، وهي الفكرة التي بسطها الفارابي في (الحروف)، وجعل بني البشر أولَ أمرهم يستعملون الإشارة، ثم بعد ذلك لجؤوا إلى التصويت، وفي هذا يقول: "وإذا احتاج أن يُعرّف غيرَه ما في ضميره استعمل الإشارة أولاً في الدلالة على ما كان يريد... ثم استعمل بعد ذلك التصويت"(135). ومحور محاورة قراطولس، حسب تسمية ابن النديم لها، يدور حول تفسير القول بالتواطؤ، فكيف تواضع الناس على اللغة؟ أو ما الطريقة التي جرى عليها التواطؤ بين البشر فيها؟ أكانت عفو الخاطر، يُشارك فيها الجميع، أم كان لها مختصون وخبراء عارفون؟ وفي تفسير التواطؤ مذهبان، مذهب يراه تواطؤاً اعتباطياً، لم يشغل مُطلق اللغة نفسَه بالتفكير فيها، وحسب قول هرموجينس: "إن كل اسم تطلقه في رأيي هو الاسم الصحيح، وإذا غيّرت هذا الاسم، وأطلقت آخر، فإن الاسم الجديد صائب صواب الاسم القديم"، وكان مما احتج به، أنّ الأشياء أمام الأمم واحدة، لكنها تختلف في أسمائها، بل إن الأمم اليونانية لتختلف أيضاً في لهجاتها، وتلك حجة أرسطو في كتاب العبارة. والمذهب الثاني، وهو الذي مال إليه سقراط في المحاورة، أنّ إطلاق الأسماء، وكذا الأفعال، وإن كان بالتواضع لم يكن مُجرداً من التفكير والنظر، ولم يقم به أي إنسان بل قام به العارفون المدركون، كما هي الحال في كل صناعة وآلاتها، وكما قال سقراط: "ليس كل إنسان بقادر على أن يُعطي اسماً، إنما فقط صانع الأسماء" ولصناعة الألفاظ طريقة تجري عليها "وليس على هوانا".