إن مما جرى به القدر أن لا يسلم أحد من الزلل أو الخطأ وكلنا ذاك البشر، فلربما اطلع أحدنا على عورة أو غفلة، أو هفوة أو زلة. لذا كان من شيم الكرام، وآداب أهل الإسلام التغافل عن الزلات، والتغاضي عن الهفوات. ذلكم الخلق الرفيع، والأدب الجم، الذي لا يتحلى به إلا أهل المروءات، ولا يتصف به إلا أولو الشرف والمكرمات. هذا رسول الله سيد الكرام، عليه الصلاة والسلام يستودع بعض أزواجه سرًا من أسراره فما مكثت حتى أذاعته لبعض صويحباتها فنزل عليه وحي السماء، وأخبره جبريل عليه السلام فما عنف ولا أساء، ولكن عرفها ببعضه وأعرض عن بعضه كأنه لا يدري .. (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ). البعض اليوم يفتش عن الزلات صغيرها وكبيرها، ويعاتب على الهفوات جليلها وحقيرها. تجد البعض يراجع تغريدة من التغريدات أو حديثاً يحتمل أكثر من معنى لأجل أن يغنم بزلة لسان أو هفوة عابرة: وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صديقِهِ وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ وَمَنْ يَتَتبَعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ قال علي رضي الله عنه: (من لم يتغافل تنغصت عيشته). أيستطيع أن يهنأ بعيشه من يقف عند كل كلمة يسمعها ويحاسب على كل خطأ وينقر عن كل مستتر ويتتبع كل عورة. ويرُدُّ على كل مجادل. تالله لهذا من مضيعة الوقت، واستهلاك البدن، وهو مفسدة للود، ومجلبة للعداوات. فما أحرانا أن نتمثل قول الشاعر: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي فَمَضْيُتُ ثُمَّةَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي التغافل عن زلة رأيتها، أو أخطاءٍ علمته، لا يعني الغباء والسذاجة بل هو التؤدة والفطنة، والعقل والحكمة. قال معاوية: (العقل مكيال، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل). وقال الشافعي رحمه الله:«الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل». هذا حاتم الأصم وهو الشيخ القدوة الرباني أبو عبدالرحمن، حاتمٌ البلخي، الواعظ، كان يقال له «لقمان هذه الأمة» لماذا سمي بالأصم؟ جاءته امرأة يومًا فسألته عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت تكرهه في تلك الحال، فخجلت، فقال حاتِم رحمه الله: ارفعي صوتك! كأنه لم يسمع، وأوهمها أنه أصمّ، فسرّت المرأة بذلك وطابت نفسها، وظنت أنه لم يسمع الصوت فلقّب بحاتم الأصم. لَيسَ الغَبِيُّ بِسَيدٍ فِي قَوْمِهِ لِكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابِي إذا شاع التغافل عن الزلات، وظهر التغاضي عن الهفوات في مجتمع، قلّت ولا بد مشكلاته، وارتفعت أحقاده وحزازاته فكم هي الشرور التي كان فتيلها التقصي والتتبع، والتجسس والتحسس! لنتغافل حتى تسقيم لنا الحياة وتصفو. قال بعض الحكماء: «وجدت أكثر أمور الدنيا لا تصلح إلا بالتغافل». كم نحن بحاجة إلى التغافل وغض الطرف في حياتنا في بيوتنا، مع أهلنا وأقاربنا، مع أصدقائنا وزملائنا. ففي ذلك العافية والراحة والطمأنينة. قال محمد بن عبدالله الخُزاعيّ: سمعتُ عُثمان بن زائدة يقول: «العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في التغافل». قال: فحدثت به أحمد بن حنبل فقال: «العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل». لَكَمْ يحتاج الأزواج خاصة إلى التغافل والتغاضي عن زلات بعضهم لتصفو لهم العشرة، ويزداد الود، وتطيب الحياة والآباء مع أولادهم هم بأمس الحاجة إلى التغافل عن بعض تصرفاتهم وغض الطرف عن صغير أخطائهم، لاسيما تلكم الزلات التي تصدر منهم مرة واحدة دون تكرار والحكمة أن لا نشعرهم أننا نعلم عنهم كل صغيرة وكبيرة، أو أننا نحصي عليهم كل دقيق وجليل؛ لأن في إشعارهم بذلك إضعافًا لشخصياتهم، وإفسادًا لأخلاقهم، وسببًا في عنادهم وكذبهم. وأُغمِضُ عَينِي عن أمورٍ كَثيرةٍ وإنِّي عَلَى تَرْكِ الغُمُوضِ قَدِيرُ المرء لابد أن يتغافل عن زلات أصدقائه وزملائه، فالناس خطاؤون، وهم ليسوا ملائكة معصومين. الزوج لابد أن يتغافل عن أخطاء زوجته أو تقصيرها في بعض شأنه، كتأخرها في إعداد الطعام أو غيره مما يكثر فيه الخطأ، ومثل تغافل الزوجة عن تأخر الزوج عن تلبية وتأمين بعض حاجات المنزل أحياناً. وممن أُمِرْنا بالتغافل عنهم أحيانًا لا الغفلةِ عنهم من جعلهم الله تحت أيدينا من الخدم والعمال لا سيما من علمت أمانته وديانته، فقد روى الترمذي وحسنه عن عبدالله بن عمر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ فصمت عنه رسول الله، ثم قال يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ فقال: (كل يوم سبعين مرة). وليكن استشعارك لنعمة الله عليك بتسخيرهم لك دافعًا للتغاضي عنهم، ومسامحتهم، فإن ذلك من شرف نفسك، وكرم سجيتك.