حينما نقف حيال مؤلفات الكاتب الروائي الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي يطالعنا مشهد عجيب، فأمامنا كاتب قد نلمح بعض الهنات في فنه وأسلوبه، وقد نخالفه في بعض نزعاته المذهبية، واتجاهاته الفكرية، ولكننا نشعر مع ذلك كله شعوراً قوياً أن هذا الرجل لا يستطيع الإمساك عن هذه الكتابة والتوقف عن تسجيل الخواطر التي تعاورته وتكاثرت عليه، والعواطف والأحاسيس التي جاشت بنفسه واستبدت به، وغلبته على أمره، والتجارب المرة التي مر بها وخاض غمارها، بل إنه ليخيل للإنسان بعد قراءته أن قوى مجهولة قد سيطرت على شخصيته ولم تترك له الخيار، فهو مرغم على الخلق الفني خشية أن يسحقه ضغطها. والظاهر أنه كان مقدراً له من أول نشأته وطالعة أمره أن يفتح عينيه أول ما يفتحهما على مناظر البؤس والشقاء والألم، فقد ولد في 1821م في مستشفى للفقراء في موسكو، كان يعمل فيه أبوه طبيباً جراحاً، وكانت الأسرة تقيم في جانب من هذا المستشفى، وكان الكتاب المقدس وتاريخ روسيا الذي ألفه المؤرخ الروسي نيكولاي كارامزين هما أول ما قرأ من الكتب، وكان وهو طفل يقضي فترة العطلة الصيفية في كوخ صغير على مقربة من مدينة تولا الواقعة على نهر الدون، وقد أتاح له ذلك فرصة لقاء المزارعين الروس الفقراء ومخالطتهم والتحدث إليهم، وهذه الحقيقة مهمة في تتبع نمو شخصيته وتطور تفكيره، فقد ظل طوال حياته شديد الحدب على هؤلاء القوم البسطاء، وبقيت هذه الانطباعات الباكرة ناضرة في ذاكرته. بعد أن تلقى قسطاً من التعليم في موسكو غادرها في عام 1837 إلى بطرسبرغ ليلتحق بكلية المهندسين وكان أكثر الطلبة من أبناء الأعيان والسادة والأشراف، فشعر بالعزلة، ووجد السبيل إلى المتعة والترفيه عن النفس في الانكباب على القراءة، فقرأ للكتاب الفرنسيين والألمان ومؤلفات بوشكين، وغوغول، والناقد بلنسكي، وأعجب بوجه خاص بكتب المؤلف الواقعي العظيم أونوريه دو بلزاك، وجورج ساند، ويوجين سي، وفيكتور هوغو، وتشارلز ديكنز، وأرنست هوفمان، وقد نقل رواية «يوجيني غرانديه» التي وضعها بلزاك إلى الروسية، وكان أثر هؤلاء كبيراً في توجيه عبقريته الأدبية. وقد كتب أولى رواياته، وهي رواية «المساكين» وظهرت عام 1846، وأعجب بها الناقد الروسي الشاعر نكراسوف، وشاركه في الإعجاب بها بلنسكي زعيم النقاد الروس في عصره، وقد وطدت هذه الرواية شهرته وأعلت مكانته، وكادت هذه الشهرة المفاجئة في مطلع الشباب تفقده توازنه وتذهب بعقله. على أن الرواية التالية التي وضعها دستويفسكي وأسماها «الشخصية المزدوجة» لم تعجب بلنسكي، ولكن هذا الأمر لم ينل من عزيمة المؤلف الشاب الذي مضى في عالم التأليف واثقاً من نفسه، مظهراً في بدايات حياته الأدبية جميع المزايا والاتجاهات التي أصبحت فيما بعد السمة العامة لمؤلفاته. وقد كتب فيما بعد كلاً من رواية «بيت الموتى»، و»المستذلون والمهانون»، وروايته العظيمة «الجريمة والعقاب» التي خلدت اسمه في عالم الأدب وجعلته أعظم أديب روسي بعد الكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي، ولم يكتب دستويفسكي رواية في حياته كتلك التي كتبها باسم «الجريمة والعقاب» فقد تركت أثرها في أدب القرن التاسع عشر على الرغم من أن القارئ العربي لم يعرف الأدب الروسي إلا من خلال مصادره الفرنسية والإنجليزية. مذكرات من البيت الميت المركز الثقافي العربي -بيت الكتب- سالم العرياني أفضل روايات الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي «رواية الجريمة والعقاب»