الآلية التي يفكر بها المبدعون معقدة، وتتطلب تكويناً معرفياً عميقاً، وتفترض وجود البيئة المعرفية والإبداعية التي تستدعي مثل هذه الأفكار، الأولى تغذي اللاوعي والثانية تجعل من الأفكار الناضجة التي تظهر فجأة قابلة للتطبيق.. خلال الثلاثة عقود الأخيرة كان أحد أهم ما يشغلني في مجال العمارة هو: كيف يفكر المعماري، وعندما قابلت عميد كلية العمارة في جامعة "شيفلد" الإنجليزية "بريان لاوسن" عام 1994م، وكنت في ذلك الوقت في طور التقديم لدراسة الدكتوراة، ذكر لي كتابه المهم "كيف يفكر المصممون الذي نشره عام 1980م، وهو كتاب يحتوي على شرح مفصل حول الكيفية التي يعمل من خلالها المصممون والمعماريون، لكنني وجدت أن الكتاب يتناول آلية التفكير الإنتاجية أكثر بكثير من لحظة الإلهام التي عادة ما يقول فيها المعماري أو المصمم أو الفنان وحتى العلماء "وجدتها"، أي اللحظة التي تخرج فيها الفكرة للوجود من العدم، أو أنها تكون فكرة غير مسبوقة لم يتطرق لها أحد من قبل، بل ولا حتى المبدع نفسه فكر فيها ولم تكن جزءا من عقله الواعي. هذه اللحظة بالذات هي التي تخلق ما نسميه الإبداع وتجعل المصمم المبدع يقدم فكرة جديدة تغير المجال الذي يعمل فيه. مؤخرا كنت أقرأ كتاب "الإنسان ورموزه" ل "كارل يونغ" وهو طبيب وفيلسوف في علم النفس ومن مجايلي "سيغموند فرويد"، تناول فيه لحظة النبوغ، فهو يحيل كثير من الإلهامات التي تظهر فجأة لدى الفنانين والعلماء إلى "أعماق العقل الباطن". يؤكد "يونغ" على "أن القدرة على التوصل إلى العرق الغني في مادة كهذه ومن ثم نقله بصورة مفيدة على شكل أدب أو موسيقى أو اكتشاف علمي هو أحد المعالم لما يدعى النبوغ"، وبالرجوع إلى التراث العربي، وجدت أن ما يسمى "التجلي" أو "المكاشفة"، وهي فكرة صوفية بحتة، تشكل مفهوما عاما لفكرة "لحظة الإلهام" التي عادة لا تكون على سطح الوعي وتنمو داخل اللاوعي ثم تقفز فجأة إلى ساحة الوعي وتتحول إلى عمل مبدع، ودون شك إن الانتقال من مجرد الفكرة إلى تطبيق الفكرة وتحويلها إلى عمل خلاق، يعيدنا إلى كتاب "كيف يفكر المصممون"، وهي عملية مترابطة تشترطها القفزات الإبداعية في كل مجال. يحيلنا هذا التصور إلى ما ذكره الفنان والمخترع الإيطالي "ليوناردو دافنشي" فقد كتب في دفتر ملاحظاته: "ليس صعبا عليك أن تتوقف من حين إلى آخر وتتأمل بقعا على الجدار أو ذرات رماد موقد، أو غيوما أو طينا أو ما شابه من أشياء وأن تجد فيها أفكارا عجيبة حقا"، ويبدو أن "دافنشي" كان يشير لفكرة "التداعي الحر" فهناك حافز ما يستدعي لحظة الإلهام، فرغم أن الفكرة تكون قد نضجت واستقرت في اللاوعي، إلا أن هناك بعض الأحداث تستدعيها وتخرجها إلى سطح الوعي، فكرة "التداعي الحر" تتطلب في الأساس نوعين من القدرة على الملاحظة، وهما ما اسميتهما "العين العارفة" و"العين المدربة"، فالعين الأولى تعرف ولديها الخبرة المعرفية الكافية التي تمكنها من استدعاء الفكرة المبدعة من اللاوعي" والعين المدربة هي التي تميز الأشياء وتفككها وتربط الفكرة الجديدة بها، إذاً الآلية التي يفكر بها المبدعون معقدة وتتطلب تكوينا معرفيا عميقا وتفترض وجود البيئة المعرفية والإبداعية التي تستدعي مثل هذه الأفكار. الأولى تغذي اللاوعي والثانية تجعل من الأفكار الناضجة التي تظهر فجأة قابلة للتطبيق. ويمكن ربط نجاح الفكرة الإبداعية بالأنماط الوظيفية الأربعة التي حددها "يونغ" لتوجيه الوعي، وهي: "الحس" (أي الإدراك بالحواس) الذي ينبئنا بوجود الفكرة، وفي اعتقادي أن الحس يمثل مفتاح المعرفة والمدخل إليها، ثم يأتي "التفكير" الذي يحدد ماهية الفكرة ويعرفها ويربطها بمحيطها المعرفي والإبداعي، وبعد ذلك "الشعور" الذي يخبرنا ما إذا كانت الفكرة مقبولة أم لا، وأخيرا "الحدس" الذي يحدد مصدر الفكرة وإلى أين ستتجه، ومن الواضح أن هذه الأنماط الأربعة تمثل آلية مترابطة للحكم على الفكرة وتطويرها بعد ظهورها على سطح الوعي، وهو ما يسمى في العمارة آلية "تخليق الأشكال"، أي أن تفكيك الفكرة والحكم عليها ومن ثم نقلها من عالم اللامحسوس إلى عالم المحسوس. مسألة خلق الأفكار وتطويرها وتحويلها إلى عمل إبداعي مؤثر يشكل مفصلا معرفيا وتنمويا أساسيا، وربما نحن في المملكة مع رؤية 2030 والتحولات الكبيرة التي تحث عليها هذه الرؤية، خصوصا في مسألة صناعة مجتمع مبدع وخلاق، يستوجب علينا التفكير بعمق في تغيير أنماط التعليم التقليدي، ليس من خلال التغيير الشكلي لمنهجية التعليم، بل من خلال تغيير أنماط التفكير لدى المتعلمين والمعلمين، وهذا لا يمكن أن يحدث بشكل تلقائي، بل بالعودة إلى المناهج وإلى فلسفة التعليم وخلق ما يسمى "التفكير الحر" لدى الطلاب الذي يتجاوز الأفكار الموجهة إلى توليد الأفكار الجديدة.