في التفاصيل الصغيرة والأحاديث الجانبية العابرة نفتّش عن الرغبة التي تشدنا نحو أي تجربة تروى لنا، لعلها تحمل في ثناياها أعجوبة في التجلَّد والصبر أبطالها أولئك الذين انعجنت أرواحهم وتشكَّلت من طول المِراس! لتستنهض الطاقات التي يركن فيها بعضنا للشكوى وللتذمر من تعاسته وبؤسه، ولا يحرك ساكنًا كأنما تشبَّع بالبرود وارتوت أفكاره بالجمود! للقصة شأن كبير في حياتنا من الطفولة إلى الشيخوخة، ونأنس إليها ونعتبر بما فيها، وربما استرحنا بإخبار الناس عنها. تحدثت قبل أيام مع شخصيّة اعتبرها استثنائية - فضَّلتُ الامتناع عن الإشارة إلى اسمه وإن كان لا يمانع - وهو في زهو الفرح وقمة السعادة عما مضى من سالف أمره وكيف تبدلت أحواله؟! بدأ كحارس أمن بأجر زهيد لا يتجاوز «1500» ريال يذهب معظمه في المواصلات إذ أنه لا يملك سيارة حينها، ومؤهله الدراسي شهادة الكفاءة المتوسطة. انقدحت في ذهنه فكرة إكمال الدراسة بعد مشادة كلامية بينه وبين زائر للموقع الذي يحرسه؛ من يدين له بالفضل بعد الله في إشعال جذوة التغيير في نفسه. آمن بالمبادئ الحقيقية، وعلم أن السعي الدؤوب هو ظن جميل برب العالمين «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى». هناك أشخاص في الحياة بارعون في نيل ما يطمحون إليه، ليس لأنهم ذوي إرادة صلبة أو عزم ثابت فقط؛ بل تغلبوا على الظروف والمعوقات ولم يستجيبوا لليأس بل قاوموه وبدلوه إلى أهدافهم النبيلة، ولم يتركوا الخواطر البليدة تتسرب إلى ذواتهم. صاحبنا لفرط شعوره بمزيد من الترقي تدَرّج في الوظائف يعمل نهارًا ويدرس ليلًا ليسدد الرسوم المطلوبة. امتلك سيارة بما يدَّخره من راتبه وعمله الجانبي في التوصيل عند وقت فراغه. من حماسه الشديد ورغبته العارمة بالتغيير للأفضل أقدم على الزواج حتى يجد الملاذ الآمن والمصدر الحقيقي للاستقرار وتعينه شريكته على مواصلة الجد والاجتهاد. أكرمه الله وتخرج من الجامعة بتخصص علم اجتماع وخدمة اجتماعية، في ذات الوقت كان يبذل الجهد ولا يبخل بوقته في العمل التطوعي أسمى الأعمال الإنسانية تلك التي لا تنتظر مقابلا لها بل تنبع من نفس كريمة وقلب جُبل على التضحية والعطاء. اليوم وبعد رحلة مكوكية وقدرة عقلية متميزة على التحليل والبحث واستنباط الحلول من أصل المشكلات وصل وفي نفسه أشياء يطمح لنيلها. أحسست وأنا أحاوره في مكتبه؛ وهو مدير لقرابة «1000» موظف تحت إدارته من تبسطه وتواضعه ولذة حديثه ومواقفه العجيبة بفرح غمر قلبي وسعادة تنتشر في أرجاء المكان وكما يقولون السعادة معدية شرط أن تخالط أصحابها. في كلمة تنسب للإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله: «إذا أتتك معضلة فاجعل جوابها منها». ما أحسن أن تنزع الجواب من أصل المشكلة! يتفرد بأسلوبه الذي صقلهُ الكم الهائل من التجارب والخبرات، وهزّ رواكد النفوس وفتح أغلاقها لا سيما؛ وهو يمارس تخصصه يستشف الحلول المدهشة من أعطافها. صدقني هذا الإنجاز الذي يعيشه ويباهي به لم يجئ في لحظة عابرة بل كان عملًا مضنيًا وصبرًا طويلاً يتخلله لحظات حاسمة وحسن ظن بالله العزيز الذي هيأ له الإمكانات وأعانه وأبدل حاله ورفع منزلته وقدره. هناك سمة بارزة يشترك فيها الناجحون أو القادة الفاعلون - فيما أعلم - وهي بر الوالدين وصاحبنا المذكور يشهد الله عليه أنه بارًا بوالديه، عضيدًا لإخوته، وفيًا لأصدقائه، آخذا بالود وبخطاب العطف مع مرؤسيه! لا أخفيك أن صاحبنا لا يجهل حقيقة أن الناس سيتهمونه بالتقصير في عمله وسيقولون فيه الكثير من الحق والباطل لكنه سليم المنطق منصف نفسه والناس يؤازر الحق ويقاوم الباطل! كان يراقب نفسه بأطوارها وتقلباتها ويتألم ويأمل أن يتدارك الشباب فراغهم في الالتحاق بالدورات التدريبية كما كان يفعل، وطرق الأبواب والسعي لمن يروم النهوض فالعقل البشري مغمور في المواهب، ألمعي بالفطرة يقتله الروتين الممل والانكباب على وسائل التواصل دون انتفاع ملموس شأنه شأن الأوراق الذاوية العطشى التي جف نبعها. زبدة الكفاح وحكاياته تستحق أن تروى وتنشر ولو أنصت المرء لمعظمها ثم وقف مليًا يتتبع أحداثها وفشلها وسقوطها ونهوضها مرات عدة؛ لأيقن أن التجربة المتزنة، والخبرة المتراكمة التي تجسدت في نفس صاحبها وأظهرها في معترك الحياة؛ ما هي إلا غرس أوتي ثمره من شياع الذكر الطيب والعمل الصادق المتواصل. ماجد بن مطر الجعيد