يتفق أكثر النقاد السيميائيين على أن السيميائية دراسة العلامات، أو الإشارات التي تقود إلى فهم المعنى، وربما كان الناقد الإيطالي (إمبرتو إيكو 2016م) أكثر توسّعاً في تعريفه الموجز للسيميائية حينما عرّفها بأنها «كل ما يمكن اعتباره إشارة»؛ وفي ضوء ذلك فإن السيميائية ليست محصورة في الإشارات، والعلامات، والرموز في حد ذاتها، بل إنها تتسع لتشملها، ولتشمل كل ما ينوب عنها أيضاً؛ ولهذا يقول (دانيال تشاندلر) في كتابه (أسس السيميائية): «من منظور سيميائي، تأخذ الإشارات شكل كلمات، وصور، وأصوات، وإيماءات، وأشياء»، ونحوها من الوسائل التي توصل إلى كيفية صناعة المعنى. وبما أن السيميائية عند العالم اللغوي السويسري (فرديناند دي سوسير 1913م): «علم يدرس دور الإشارات بوصفه جزءاً من الحياة الاجتماعية» فإنه بإمكاننا أن نرى كثيراً من العلامات، والرموز، والصور، والإشارات الدالة لغوياً على معنى معين داخلة في نطاق ما وصفه بالحياة الاجتماعية، أو ما يمكن أن نصفه بالممارسة اللغوية الاجتماعية، أو الممارسة اللغوية للحياة بشكل عام، أو كما قال العالم اللغوي، والناقد الأدبي الروسي (رومان ياكبسون 1982م) عن السيمائية بأنها: «علم الإشارات العام»، وهو تعريف موجز وجامع؛ لأنه يدخل في إطاره كل ما تؤديه الإشارة، ولعل من ذلك مثلاً ما تؤديه علامات التوديع في أدب الفراق. إننا -مثلاً- حين نطالع بعض الرسائل الأدبية التي كُتِبت في أثر الفراق نلمس فيها كثيراً من الإيحاءات التي تنبض بحرارة الفقد، وتنبئ بلوعة البعد، كما في قول أبي منصور الثعالبي (ت 429ه) مثلاً: «فارقتني فتفرّق عني شملُ أنسٍ منتظم، وتمكّن مني بَرحُ شوقٍ مضطرم»، وحين نقرأ في الشعر نجد ألفاظ التحية، والسلام، والوداع، تشي بكثير من تلك المعاني، كما عند الشاعر الأندلسي (ابن زيدون 463 ه) مثلاً في قوله: «ويا نسيمَ الصَّبا بلّغ تحيتنا..»، وقوله: «عليكِ منا سلامُ الله ما بقيت..»، وقوله: «وأن تهدي السلامَ إليَّ غِبّاً / ولو في بعضِ أنفاسِ الرياحِ»، أو في قوله: «أستودِعُ اللهَ من أُصفي الودادَ له..»، والجميل في تلك الأساليب أن أكثرها يرد على سبيل الانتهاء والختم، مع تضمنها دلالات (السلام، والتحية، والتوديع) وكأن الشاعر فيها يلوّح من بعيد، وهو أمر يجعلها أكثر تناسباً وقبولاً وجمالاً. وقد ينص الشعراء على التصريح بتلك العبارات الدالة على الوداع مثلاً، كما في قول ابن سعيد المغربي (ت 673ه) لابنه وقد عزم على السفر، فأخذ يوصيه شعراً ونثراً، يقول: «أودّعكَ الرحمنَ في غربتك/ مرتقباً رحماهُ في أوبتك»، ويقول: «واختصر التوديعَ أخذاً فما/ لي ناظرٌ يقوى على فُرقتك»، ثم يختم رسالته إلى ابنه قائلاً: «والله سبحانه خليفتي عليكَ، لا رب سواه»، وهنا نجد أن التوديع، والترقب، والانتظار، والدعاء، وعدم القدرة على الإبصار بسبب الفراق، إنما هي رموز لفظية تشي بكثير من دلالات الوداع، وإشارات التلويح، ورموز السلام، الأمر الذي يجعلنا أمام «دستور شكلاني للإشارات» على حد وصف الفيلسوف الأمريكي (تشارلز بيرس 1914م).