يتحدث الكثيرون عن نشأة نظام عالمي جديد من رحم الأزمة الناجمة عن تفشي وباء "كورونا" (كوفيد 19)، ويتفق معظم المحللين على أن الصينوروسيا ستلعبان دوراً حيوياً في هذا النظام، ويبدو أن إرهاصات هذا النظام بدأت تلوح في الأفق قبل أن تنجلي الأزمة، وحتى قبل ظهور بوادر نهاية لها سواء من خلال انحسار معدلات انتشار الفيروس والإصابات، أو من خلال التوصل إلى صيغة تعاون دولي بشأن إنتاج اللقاحات وتوزيعها وتزويد جميع الدول بها. الشواهد تؤكد أن الصراع يحتدم بين الولاياتالمتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين من جهة، والصينوروسيا من جهة ثانية، فالرئيس الأميركي جو بايدن وصف نظيره الروسي ب"المجرم"، في موقف مفاجىء للكرملين الذي رد بكل عنف على هذه الإهانة، ولكن البيت الأبيض سرعان ما عاد للعقلانية ودعا إلى عقد لقاء قمة أميركية روسية في دولة ثالثة، وذلك رغم أن الجانب الأميركي لم يتجاوب مع مقترح للرئيس بوتين في مارس الماضي بإجراء لقاء قمة افتراضي مع الرئيس بايدن للتباحث حول المشكلات القائمة بين البلدين. وإذا كانت هذه هي أجواء العلاقات الأميركية الروسية، فإن العلاقات بين واشنطنوبكين ليست في حال أفضل، فاجتماع "أنكوريج" الذي عقد بولاية آلاسكا في مارس الماضي، وحضره وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني يانغ جيتشي، قد عكس حجم الفجوة وعمق الأزمة التي تعيشها علاقات البلدين، فالوزير الأميركي اتهم الصين بتهديد الاستقرار العالمي، بينما دعاه الوزير الصيني إلى "التخلي عن عقلية الحرب الباردة"، مؤكداً أن بلاده لن تلتزم بالديموقراطية على الطريقة الأميركية. واعتبر الصينيون أن الحدة التي تعاملوا بها في الاجتماع جاءت رداً على "توجيه هجمات واتهامات لا أساس لها ضد سياسات الصين الخارجية والداخلية، مما أدى إلى تلاسن في الكلام"، وأن "تجاوزات" الجانب الأميركي "ليست أخلاقيات التعامل مع الضيوف، كما أنها لا تتماشى مع البروتوكول الدبلوماسي". وقال كبير المفاوضين الصينيين يانغ جيتشي: "الولاياتالمتحدة ليست مؤهلة للتحدث مع الصين بطريقة متعالية، والشعب الصيني لن يقبل هذا الأسلوب، نحن دولتان رئيستان في العالم، ويجب علينا أن نتجنب المواجهة، وعليكم أيها الأميركيون أن تتوقفوا عن التدخل في شؤوننا الداخلية فوراً". أما مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان فقال في بداية المحادثات مع نظرائه الصينيين: "لا نسعى إلى الصراع لكننا نرحب بالمنافسة وسوف ندافع دائماً عن مبادئنا وشعبنا وأصدقائنا"، وهي كلمات لم تفلح في امتصاص الغضب الصيني كونها لا تنفي سعي الولاياتالمتحدة لفرض نموذجها القيمي على التنين. الحقيقة أن إدارة بايدن تنظر للصين بشكل خاص باعتبار التهديد الأخطر للنفوذ العالمي الأميركي، حيث اعتبرت وثيقة استراتيجية السياسة الخارجية لإدارة بايدن أن الصين هي "المنافسة الوحيدة التى لديها القدرة على حشد قدراتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتقنية لتحدي النظام العالمي المستقر والمنفتح بشكل دائم"، ولكن لا أحد يستطيع القول بأن القوتين تتجهان نحو صدام مباشر لأن شروط هذا الصدام غير متوافرة في ضوء تقاطع المصالح الاستراتيجية وتداخلها بشكل يجعل من الصعب على أي طرف منهما تحقيق انتصار حاسم على الطرف الآخر دون الإصابة بأضرار بالغة. من الصعب كذلك القول بإمكانية نشوب صدام بين محاور وتكتلات دولية جديدة، فرغم تفاقم التوترات فإن هناك كوابح ضخمة منها القدرات العسكرية لكل طرف، والتي تضمن وجود توازن رعب وردع متبادل يجعل من الصعب على أي طرف مجرد التفكير في توجيه ضربة للآخر، فضلاً عن أن القاعدة الحاكمة لسياسات إدارة بايدن تجاه الصين هي "مواجهة الصين إن كان ذلك ضروريا والتعاون معها إن كان التعاون ممكناً"، علاوة على أن تنامي التعاون الاستراتيجي بين الصينوروسيا لا يعني إمكانية اعتبارهما "كتلة واحدة" أو معسكرا واحدا مناوئا للغرب كما كان الحال بالنسبة للكتلة الشيوعية إبان حقبة الحرب الباردة، فالصين لا تسعى للدخول في هذه الجدلية التي تتنافر مع مصالحها الاستراتيجية كونها صاحبة الاقتصاد الأكثر تأثيراً في العالم والأكثر اندماجاً مع الاقتصاد الأميركي، علاوة على أن التكتل العسكري الغربي الأهم وهو حلف "الناتو" لا ينظر للصين كمصدر تهديد، ناهيك عن أن الحلف ذاته يعاني تصدعات وشروخا يصعب معالجتها كما هو الحال بالنسبة لوضعية تركيا، التي باتت واقعياً خارج حسابات الحلف رغم استمرار عضويتها؛ فتركيا، عضو الناتو وصاحبة ثاني أكبر جيوشه تتعاون عسكرياً مع روسيا التي يعتبرها الحلف مصدر التهديد الأساسي، بينما اليونان عضو الحلف أيضاً ترفض التعاون في توقيع عقوبات على الصين، وهناك أيضاً ألمانيا، إحدى أكبر قوى حلف "الناتو" التي تربطها عقود طويلة الأجل لشراء الغاز الروسي بعد إنشاء خط أنابيب غاز الشمال رغم مطالبات الاتحاد الأوروبي بشأن تقليص الاعتماد على روسيا كمصدر للطاقة. البعض يقول أن شعور الصين بالقوة وتنامي الشعور بالقومية والحسابات الخاطئة بشأن نهاية العصر الأميركي وبداية أفول القوى العظمى المهيمنة على النظام العالمي، كل هذه عوامل قد تغري الصين بتسريع وتيرة الصدام للإمساك بزمام قيادة النظام العالمي، ولكن الواقع وتحليل السلوك الصيني يدحض تماماً مثل هذه الفرضيات لأن الصين ليست في عجلة من أمرها، وإن كانت تبدي إحساساً متزايداً بشأن الدفاع عن النفس في مواجهة أي ضغوط أميركية، أو ما تعتبره بكين تدخلاً في الشؤون الداخلية الصينية. ربما كان من الخطأ، برأيي، أن تمارس الولاياتالمتحدة ضغوطاً على خصميها الرئيسين، الصينوروسيا في توقيت واحد، ولا يمكن فهم التحالف بين القوتين في الآونة الأخيرة بمعزل عن السياسات الأميركية، التي تسهم في تجسير الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين بكين وموسكو وتدفعهما للتعاون وتنسيق الأدوار بعيداً عن الأيديولوجيات. والمؤكد أن علاقات واشنطن مع كل من بكين وموسكو تبدو أهم وأخطر من عقدة التوصيف المفاهيمي، فسواء كان ما يحدث حرباً باردة أم غير ذلك، فإنه لا ينفي التأثيرات الخطيرة لأي صدام أو مواجهة بين القوى الثلاث، فالولاياتالمتحدة لا تتدهور بالطريقة والوتيرة التي يحلو للبعض أن يصورها من باب "التحليل بالتمني"، وروسيا التي استبدلت الأيديولوجيا بالقومية، تريد الاعتراف بقوتها ودورها العالمي، والصين لا ترغب في حدوث مواجهة قد تعطل مسيرتها للصعود إلى مقعد قيادة النظام العالمي، وقد أثبتت خلال أزمة تفشي وباء "كورونا" قدرتها على التعامل مع الأزمات، واتضح لها أيضاً مدى حاجتها لترسيخ الثقة العالمية في قدراتها التكنولوجية والعلمية بعد أن حققت بالفعل تفوقاً ملحوظاً في هذا المجال، ولكنه تفوق ربما يحتاج إلى الوقت سواء لإثبات الذات وترسيخ الأقدام أو للرد على الدعاية المضادة. قناعتي أن المقبل سيكون صراعاً تقنياً وعلمياً واقتصادياً بالأساس، فلا أيديولوجيات متصارعة، ولا سباقات تسلح، والتعايش بين القوى الكبرى هو المخرج الوحيد الأقل خسارة لجميع الأطراف شرط التوصل إلى صيغة تضمن أنه لا غالب ولا مغلوب.