لكل ذهن تضاريس معرفية تستقر على ثوابت التفكير الصحيح ينطلق منها كل فرد إلى فرز الحقائق حوله، وتنظيم الرؤى الكثيفة، واختيار ما يلائم مدخلاته الذاتية.. فكل شخص له مصادر معرفة يتغذى منها، وتزيد من رصيده العقلاني، وتجعله أحيانا ملتصقا بأحادية التوجه. الناس غالبا ما ترفض الحقائق التي يكون فيها شكل حياتهم فيظهر نتيجة أنه ليس كل ما يعرفه الإنسان قد يكون الحقيقة، أو ليس كل ما هو واقع قد يعد حقيقة، "فالحقيقة تشير إلى الشيء الثابت يقينا، أو ما وضع له في الأصل. أما الواقع فيعني: «معرفة الإنسان بالحالة التي عليها الأشياء التي تحيط به، وتقوم بتشكيل أفكاره ومعتقداته، وبالتالي: تقوم بتشكيل رأي عند الفرد أو المجتمع، ومن هنا: فالإنسان يظل أسيرا للوسيلة التي يتعرف بها على الأشياء "القانون الطبيعي أنه لا يمكن أن نتعرف على العالم الذي نعيش فيه ونفهمه إلا من خلال حواسنا المبرمجة معرفيا وثقافيا.. وعبر اللغة والمفردات التي نملكها فتمثل العالم الذي نعرفه. التدفق المعلوماتي، والسيل المعرفي صنعا حالة من التردد في تثبيت الحقيقة المجردة من الظنون، وبنيا سياجا من التوجس حول تصديق المتدفق، وتبيان الصحيح من الخطأ، وتصنيف المفروض والمرفوض، وتقويم الاعوجاج، ومنعت الشخص من حسن الاختيار بين عدة خيارات متاحة. اليوم حاجة المرء إلى قواه النظرية، وطاقته العقلية في التعاطي مع عالم مملوء بالعلم الحاد المجرد، وساخن بحالات النقد، ومغتص بالقناعات المختلفة هو محتاج إلى برمجة داخلية مبنية على تأصيل الجوهر، وتعزيز الهوية، ورسم المبادئ للذات، وتحديد مصادر المعرفة وإلا كلما زادت معرفة الإنسان ازداد جدلا فجهلا واتسعت متطلباته العقلية للوصول إلى مناطق الارتياح الذاتي التي لن يصلها ما دامت في دائرة التحيز والتحير. كثافة المعرفة الفوضوية تصنع أغلالا تكبّل صاحبها في مساحات تبصر ضيقة جدا.. فيصبح نقض الحقائق الثابتة متطلبا معرفيا يستدعي خلفيات التنطع، ومعطيات التشكيك، ويسهم في إصابة الذات ب"بعثرة نفسية" بهذر الأسئلة، وعسر الجدل. المعرفة الحقة هي التي نشعر عند تشربها أننا ننمو فكرا وأخلاقا، ونكون في مساحات الشغف بغايات السمو والارتقاء في العقل والعمل والعطاء وسلامة القلب، وهي التي من خلالها نستطيع أن نحظى باستيعاب أحوالنا، ومعرفة المقاصد مما يحدث بين أيدينا، وهي التي تعلمنا الحكمة في القول، والرشد في الاختيار، والقوة في العزيمة، والحجة في الرأي، والدليل إلى غاية وجودنا. ويبقى القول: اليوم علينا صناعة أنفسنا بغطاء عقلي رصين ومؤصل بالحقائق المعتبرة، نقوى عبره من فرز الصالح والمستقيم والصحيح عن عواكسها، علينا أن نبتعد عن الانكفاء على جدالات اللغو والغلو في كل معرفة تقيد قيمتنا الإيمانية والنفسية والثقافية والاجتماعية والبشرية.