على الرغم من أن الفرضيات والتجارب تساهم في تمكين الحكومة السعودية من إحداث تحول في طريقة تقديم الخدمات للمستفيدين من خدمات الجمارك، إلا أن العلوم قد لا تشكل المصدر الأول للإلهام لدى المنظمات المتعطشة للابتكار، وفي هذا الجانب فإن بعض الباحثين -وأنا من ضمنهم- يسعون إلى تغيير هذا النمط من التفكير، فأنا قد تمكنت من الاستفادة من الدراسات التي تناولت فوائد النهج العلمي، لتدريب المديرين في المئات من الشركات ومساعدتهم على ابتكار النظريات، وصياغة فرضيات قابلة للدحض، وإجراء اختبارات دقيقة، وتقييم النتائج بعناية. وفي غالب الأحيان يكون للنتائج تأثيرًا ملموسًا وقويًا، بما يساهم في تطوير منتجات وخدمات جديدة. وخلال تنفيذ هذا النهج، يطلب من المديرين أن يقوموا أولاً بصياغة نظرية تضع إطاراً لفكرة عن منتج أو خدمة جديدة، وهي خطوة تقدم أجوبة على السؤال "كيف يمكنني بناء قيمة لعملائي؟" من خلال توضيح الفائدة الرئيسة التي سيجنيها العملاء، وكذلك إجراء دراسة حالة لها، وعقب ذلك، وبالكشف عن الافتراضات المتعلقة بالعملاء ووضعهم في اختبارات دقيقة، سيتمكن المديرون من اكتساب رؤى قيمة ومفيدة قبل إطلاق المنتج. لقد بادرت العديد من الشركات الناشئة التي أتعاون معها إلى تطبيق النهج العلمي بفعالية عالية، وتم تناول ذلك في مقال حديث نشر على Harvard Business Review، وهنا أود التأكيد على أن ذات النهج يمكن تطبيقه على أي قرار تنظيمي في حالات الشكوك، ويشمل ذلك الشركات الصغيرة التي تتطلّع إلى الابتكار، وكذلك الشركات الكبيرة، وبل الجهات الحكومية. وتقوم الجهات الحكومية والعامة بإجراء تجارب لاختبار السياسات الجديدة، وكذلك المحفزات والمزايا التي تقدمها الأعمال، والتي يمكن أن تساهم في تطوير وتحسين عمليات التوظيف والابتكار وإنشاء الأعمال التجارية. وعلى أي حال فإن المبادرات التي تفرزها هذه التجارب كثيراً تعطي نتائج مخيبة للآمال، وذلك حتى في حالة المبادرات المصممة بعناية والمنفذة بشكل دقيق. ولكن، ما الذي سيحدث لو بادر المسؤولون الحكوميون، مثل رواد الأعمال الناشئين، في التصرّف بشكل مشابه للعلماء؟ إن اختبار النظريات والفرضيات بتجارب دقيقة سيؤدي إلى التحقق من صحة الأفكار أو استبعادها في وقت مبكر، الأمر الذي سيضمن أنّ الحل النهائي المقترح سيكون قادراً على معالجة المشكلة القائمة، وذلك قبل ضخ أموال الدولة في استثمارات كبيرة ومكلفة. خدمة العملاء في الجمارك بادرت الجمارك السعودية إلى تطبيق النهج العلمي لتحسين عملياتها، ولا سيما خدمة العملاء. وتتولى الجمارك السعودية إدارة حركة المسافرين والتجارة عبر 35 منفذاً جوياً وبرياً وبحرياً في المملكة، لقد ركّزت الجمارك السعودية على مدى تاريخها على ضمان الأمن وتحصيل الإيرادات وتسهيل التجارة.. وفي أواخر العام 2018 بادرت الجمارك السعودية إلى تنفيذ برنامج التحول في تجربة العملاء، والذي أطلقت عليه "جسور". وقامت الجمارك السعودية في بادئ الأمر بإجراء مقابلات مع المستفيدين من الخدمة والموظفين العاملين في منافذها بهدف التعرف على شكاوى العملاء، وتم وضع ستة عشر مجالًا للتحسين، والتي يركز أكبرها بشكل محدد على طريقة تقديم الخدمات، وعلى الرغم من تطبيق التقنيات الرقمية على نطاق واسع، إلا أنه كان هناك الآلاف من المستفيدين من الخدمة، ومن ضمنهم التجار والوسطاء، يقومون بزيارة المنافذ بشكل يومي وينتقلون بين المكاتب من أجل حلول للمصاعب التي تواجههم والتي تتراوح ما بين إعفاءات على الاستيراد/التصدير إلى حالة الشحنات، ومع تزايد النشاط التجاري وتعقيد الإجراءات، لم يعد الموظفون قادرين على التعامل مع العملاء الذين يطرقون أبواب مكاتبهم ويدخلون إليها. ودفع ذلك الجمارك السعودية إلى اتخاذ قرار بتجربة تقديم الحلول في مكان واحد بدلاً من إطلاق برنامج متكامل عبر جميع المنافذ الوطنية البالغ عددها 35، ولكنها قامت في البداية بوضع أربع فرضيّات ركّزت اثنتان منها على تجربة العملاء، واثنتان على قدرتها على الحفاظ على مفهوم الخدمة الجديد وإدارته: 1- تتحسّن تجربة العملاء في حال حصولهم على الخدمات في مركز متكامل يضم مرافق جذابة وموظفين مدرّبين. 2- يكون المركز الشامل أكثر كفاءة في حال تم تقليل نقاط التواصل مع العملاء. 3- يكون المركز الشامل حلاً قابلاً للتطبيق في حال نجاح عملية نقل جميع الخدمات من مكاتب الدعم الإدارية إلى الموظفين في الخطوط الأمامية (خدمة العملاء). 4- يبدأ نموذج الخدمة في تحقيق نجاح سريع في حال قيام الموظفين الحاليين الذين لا يتعاملون مع العملاء بتولّي المناصب الجديدة التي تتعامل مع العملاء والتي لم يتم تحديدها مسبقًا. وقررت الجمارك السعودية اختبار هذه الفرضيات، ولتحقيق هذا الهدف فقد بادرت إلى تحويل جزء مهمل من ميناء الرياض الجاف إلى نموذج أولي لمركز خدمة العملاء، وتم تركيب المرافق التي تدعم رحلة العميل المرتقبة، وذلك ابتداءً من المدخل ومكتب الاستعلامات الجذاب، إلى مكاتب موظفي الخدمة والكافتيريا، وتم تخصيص ستة موظفين من مختلف وحدات الأعمال وتدريبهم كموظفي خدمة عملاء، وتطبيق نظام التذاكر والانتظار، كجزء من جهود الجمارك السعودية لرصد بيانات الأداء وتسجيلها. اتخاذ القرارات استناداً إلى الإثباتات استمرّ المشروع التجريبي على مدى ثلاثة أشهر، وحقق نتائج إيجابية للغاية، حيث تم الوصول إلى إثباتات تدعم ثلاث فرضيات من الفرضيات الأربع. 1. ارتفعت نسبة رضا العملاء بشكل عام من 64 % في التقييم الأساسي إلى 86 %. 2. تم تقليص الوقت المستغرق لخدمة 80 % من العملاء من 30 دقيقة إلى أقل من خمس دقائق، وتحقق ذلك من خلال ستة موظفين فقط مقارنة ب 15 موظفًا في 13 مكتبًا مختلفًا في السابق. وفي هذا الجانب، قال أحد الوسطاء معلقاً: "ما كان يستغرق ما يقرب من الساعة والزيارات إلى المكاتب المختلفة لا يستغرق الآن أكثر من 10 دقائق". 3. تمكن مركز الخدمة من التعامل مع الطلبات التي لا تحتاج إلى موافقات (80 % من زيارات العملاء)، وذلك مثل إصدار أوامر التحصيل. وتطلب 20 % فقط من الزيارات خدمات تقتضي مراجعة الخبراء من قبل إدارات الأعمال أو حظر الوصول إلى النظام، وهو أمر ليس بمقدور موظفي خدمة العملاء إنجازه. 4. كان تقييم طاقم العمل للمشروع التجريبي إيجابيًا إلى حد كبير، حيث إن 85 % من موظفي خدمة العملاء ومديريهم المباشرين عبروا عن رضاهم عن المفهوم الجديد والقيمة التي يقدمها. ولكن في المقابل، كان هناك العديد من الموظفين الذين عبروا عن تخوفهم من التحوّل إلى خدمة العملاء بشكل دائم، لم يتحول طموح الجمارك السعودية في أن تصبح أنشطتها متمحورة حول العملاء إلى ثقافة تحظى بالاحترام والتشجيع ويتم فيها خدمة العملاء. عادل بارجاء مدير عام التسويق وخدمة العملاء في الجمارك السعودية، قال معلقاً على نجاح المشروع التجريبي، "لقد مكننا هذا المشروع التجريبي من اختبار مفاهيم جديدة في بيئة تحت السيطرة، وتنفيذ تعديلات بشكل شبه يومي، مما أتاح لنا الحصول على رد الفعل المناسب من عملائنا وموظفينا". تمت تجربتها واختبارها لقد حصلت الجمارك السعودية على ثروة من الدروس المستفادة لتتمكن من مواجهة التحديات، وفي الوقت نفسه توسيع نموذج مركز الخدمة الشامل إلى جميع المنافذ. وأضيف إلى النموذج ممثل عن مكتب الدعم الإداري ليكون قادراً على الوصول إلى الملفات السرية ومصرّح له بالموافقة على الطلبات، يقوم فريق المشروع التجريبي بأتمتة بعض إجراءات الاعتمادات وتقديم مكاتب الخدمة الذاتية الرقمية، كما يتعاون مع إدارة الموارد البشرية لتقديم حوافز تشجع الموظفين على العمل في الخطوط الأمامية لخدمة العملاء. ويضع التصميم النهائي إجراءات تشغيلية نموذجية لضمان حصول العملاء على خدمة جيدة يعتمد عليها، كما يوصي بأنواع مختلفة من مراكز خدمة العملاء اعتماداً على موقع المنفذ وأعداد الزوار وأنواعهم، سواء كانوا من المسافرين أو التجار أو الوسطاء. والنتيجة هي أنه قد تم دمج النهج العلمي الذي يركز على اتخاذ قرارات منظمة ودقيقة، في برنامج التحول في تجربة العملاء لدى الجمارك السعودية. يقول عادل بارجاء: "نشجع الفرق على إيجاد حلول للمشكلات باستخدام نهج قائم على الإثباتات، وهذا يتطلب اختبار الفرضيات ومعرفة ما إذا كانت الحلول المقترحة لها فوائد واضحة وملموسة قبل تطبيقها". وأشار إلى أنّ مثل هذا النهج له قيمة خاصة في الإطار الحكومي، ويكون مفيداً في توجيه الموارد نحو البرامج التي لها فوائد ملموسة وإيجابية، وبعيدًا عن البرامج التي لا ينطبق عليها ذلك. * أستاذة مساعدة لريادة الأعمال في إنسياد