"الخطِر في الأحكام المكوّنة عنك، هو أثرها عليك، وبوجه خاص تلك الدراسات المعمقة عن أعمالك، أنها تخرجك من انهماكك ومن ذاتك، كما أنها تحوّل الموقع الذي كنت تنظر منه إلى نفسك حيث الداخل، فيصير النظر من الخارج كشخص آخر منفصل عنك" فيليب جاكوتيه. يختلط الأمر في أحيانٍ كثيرة عند الآخر وهو ينظر إلى المبدع المنكفئ على ذاته، المخلص لخلوته والحريص في تعاهد المسافة الآمنة التي تفصله عمّا يربك عالمه، فهو لن يسلم من النعوت المتعلقة بالكِبر والمزاجية أو التصنّع والترفع عن العادي واليومي في حياة الناس، في حين تُظهر سِيَرٌ عديدة أنّ ذلك السلوك طبيعة تكوينية في معظم الكُتّاب والأدباء والفنانين وكل من يتطلّب عمله الإبداعي سبرا ممعنًا في الذات وتأمّلًا مستفيضًا فيها وفي العالم المحيط. يستمر ذلك السلوك عادة بوصفه طبيعة ملازمة مدى الحياة يترتب عليها تفكيك وإعادة بناء مستمرّيْن للأفكار والرؤى، ما ينتج عنه تكوينات متجددة مختلفة في كل مرة، وكأنّ المبدع بنضجه ووعيه يُفسح لقدْر من طفولته بالاستمرار والتّبدي في تلمّس الدهشة والقبض على أفضل تجلّياتها لا في التكوين الجديد وحسب، بل في حالة التعاقب الناتجة عن التفكيك والتركيب كما في اللعبة الشهيرة "ليغو" فيضبط مجسّات الحالة بما يضمن دفق الأفكار ودقة الشعور، وينعكس هذا في حالة الأدب على حساسية محمودة في اللغة. كان ذلك ديدن الشاعر والمترجم والناقد السويسري المولد، الفرنسي الإقامة والثقافة، فيليب جاكوتيه الذي استقر في مدينة لوزان الناطقة بالفرنسية، لكنّه متذبذبا في علاقته مع أدب منشأه السويسري الروماندي والمكتوب بالفرنسية رغم الآصرة الوثيقة التي جمعته في مقتبل الشباب بالشاعر السويري غوستاف رود، حتى يبدو أنّ الحياة الانفرادية تسربت إليه مع التّعاليم التي تلقّاها عن رود، بدا ذلك بشكل ملتبس إلى حد ما في أحد أعماله السردية "الظلام"، حيث ظهرت أطيافٌ من تلك العلاقة في صورة فيلسوف ومريده الذي غادر لسنوات ثم آب، ليجد المعلّم وقد نسف التعاليم وتحوّل إلى أقصى النقيض. كتب جاكوتيه هذا العمل عندما أصابته قفلة الشِّعر وصدر عام 1961. كان الشاعر محاطا بعائلته، متواصلًا مع قلة معدودة من الأصدقاء بعيدا عن المدن الكبرى، رافضا مجتمعات النخب الثقافية رغم كل الصخب المرصود له حالَ استجابته، إنّه المعني بتفكيك الوجود وإعادة صياغته في قصائده، فمكّنه ذلك من أسلوب خاص مرتكز على طبقات من الفحص والتمحيص؛ لأنه دائم الالتفات إلى الخلف تستوقفه النصوص ويفكّر بذهن الإنسان المعاصر المهجوس بالنقد والشّك، فتشغله مشروعية ما يكتب ودرجة قبوله، ويتعاطى مع الأشياء لا من حيث رؤيته لها، بل من وجهة نظر الأشياء نفسها، محاولًا استنطاقها والإصغاء إلى الكامن فيها. انغمر جاكوتيه في حياة مديدة، مكرّسة للعمل الأدبي لأنها مهنته التي يتكسبّ منها أولًا ولأنه مولع بالآداب ثانيًا ، لكنّه أخضع عمله لمعايير أخلاقية صارمة تميزت بها ثقافة المجتمعات السويسرية البرجوازية، ما جعل أعماله تقترب في دقّتها من الحقيقة، وهو يصف كتابته فيقول "إنها من واقعي فأنا لا أتخيّل". فحقق له ذلك رصيدًا من الجوائز المرموقة التي أصابته من غير أن يستهدفها، أهمها جائزة "غونكور" وإدراج اسمه في سلسلة "لابلياد" وهو لا يزال يمارس نشاطه الأدبي على غير العادة في إدراج أسماء علامات الأدب الفارقة بعد وفاتهم. ظلّ جاكوتيه مواظبًا على صون مسافاته، حتى بعد وفاة العديد من أصدقائه وتكالب الأحزان عليه، فلازم قريته معظم الوقت، واستمر في تقصّي جادّة الشِّعر الحقيقي إلى حين رحيله في فبراير الماضي عن عمر قارب القرن، متمثّلا أحد نصوصه: "لا مزيد من المتاهات، حتى لو كان هناك مخرج". مريم الزرعوني