ارتبطت في ذهني وبشكل تلقائي شكوى الناس مؤخرا من ضيق الوقت وانقضاء الساعات، وشعور متنامٍ أن الوقت لم يعد كما كان، ولم نعد قادرين على الإنجاز كما كنا، ارتبطت هذه الشكوى وأنا أسترجع ذكرى المذياع في اليوم العالمي للإذاعة مع تلك الجلسة الأسبوعية مساء الأربعاء في منتصف الثمانينات الميلادية في بيت أحد الأصدقاء، ونحن نتحلق حول المذياع ننتظر بشوق برنامج ندوة المستمعين الذي كانت تبثه إذاعة بي بي سي اللندنية، وفي أجواء الانتظار والترقب هذه يقلب أحدنا صفحات من كتاب حديث الأربعاء لعميد الأدب العربي طه حسين، وما هي إلا لحظات حتى نقترب تدريجيا من ساعة الصفر، التي تنطلق معها الأصوات الخالدة للإذاعيين الأبرز من أمثال ماجد سرحان ومديحة المدفعي وجورج مصري وغيرهم، لندخل بعدها في حالة مما يشبه الوجد الصوفي، حيث نفقد الشعور بالمكان والزمان، حتى أنني لأشعر أن لحظات انقطاع إرسال الموجة القصيرة وتقلبات وضوح الصوت فيها ما هو إلا عزف منفرد لأحد أفراد الجوقة اللندنية يزيد حالة الوحدة الشعورية اكتمالا. ما مضى ليس حالة خاصة أو استثناء من حياة تلك الحقبة التي أصبحنا نعبر عنها بأيام الطيبين، فالبيت ونظامه والمدرسة ومديرها وملاعب الأزقة وخفاياها كلها وغيرها تشكل حالات انصهار حقيقي في اللحظة تجعل منها تجربة يستحضرها الذهن بأدق تفاصيلها. الحال اليوم مختلف تماما، حيث أصبحنا لا نكاد نعرف أنفسنا فضلا عن أن نعرف أو يعرفنا غيرنا، ولعل أبرز الأسباب لذلك هو أننا ومع تقدم التقنية المذهل أصبحنا نتحول وبشكل تدريجي إلى كائنات افتراضية متخلفة وربما متناقضة. اليوم يعيش أحدنا شخصيته الحقيقة في أضيق حدودها، حيث يتواصل مع المحيط الحقيقي بالقدر الذي يكفي لتأدية الأعباء والالتزامات الوظيفية والاجتماعية التي تتعرض بسبب التآكل المستمر للشخصية الحقيقية إلى التقصير والإهمال في كثير من الأحيان. وفي المقابل نعيش اليوم أكثر حياتنا بشخصياتنا الافتراضية من خلال أجهزتنا الذكية وتطبيقاتها التي أصبحت تتناسل مثل الطفيليات والبكتيريا، وتحتاج كل من هذه التطبيقات غالبا إلى شخصية خاصة بها، فأنا جاد في تويتر صاحب نكتة خفيف الدم أو يستخفه في السناب شات أو الوتساب، وقس على ذلك بقية التطبيقات. والأمر لا يتوقف فقط عند إعداد المحتوى الخاص بك، بل يتجاوزه إلى الاطلاع على محتوى الغير والتفاعل معه، الأمر الذي يولد العديد من الإشكالات التي تجعل أحدنا كثير التوتر وتحفز من أجل بعض الأمور التي تصل إلى حد التفاهة أحيانا من قبيل "قريت رسالتي ليش ما ترد" مما يجعل الإنسان الحديث ليس شخصية افتراضية وحده، بل فريق كامل من الشخصيات المتناقضة. ربما هذه الحالة هي التي يشير إلى شيء منها البولندي زيجمونت باومان في كتابه "الحداثة السائلة" حيث يتحول الإنسان من حالة الصلابة إلى السيولة، خارجا بذلك من مفاهيم الزمان والمكان. إن حالة مثل التي نعيشها اليوم لا تجعل الأوقات وحدها ضيقة منهوبة، بل الإنسان نفسه من فقد نفسه.