وأنا أنتهي من قراءة ديوان الشاعر السعودي الدكتور محمد بن ناهض القويز (شهادة الأرض) الصادر عن دار عالم الكتب للطباعة وللنشر سنة 1438ه / 2017م وجدتني أحتمي بفلاسفة غربيين معاصرين من عيار جاك ديريدا وهو يفكك في كتابه (في الروح، هايدغر والسؤال) استعارية الشر من منطلق (الدازاين) وهي كلمة ألمانية يستخدمها هايدغر للدلالة على كينونة الموجود الإنساني أو كيفية وجوده من حيث هو الكائن المنفتح على الكون في تغيره وعدم استقراره (انظر جميل صليبا / المعجم الفلسفي/ الكتاب اللبناني/ ج1_ص:556)، فعبر الدازاين يحاول تناول ميتافيزيقا الشر بنفس درجة اقترابه من الحقيقة. فالإيمان بوجود الشر بحسب جاك ديريدا هو إيمان بوجود الله، وبذلك يشرع هذا الفيلسوف المجال للإيمان بميتافيزيقا الشر مؤكدا على أن التعبير عن الماهية الروحية للشر بواسطة اللغة هو اقرب المناطق لالتماس الحقيقة (ديريدا / في الروح). وبنفس القدر، الفيتني مشدودا إلى بول ريكور، وأنا ألهث معتمرا مساحات النص ومتوالياته. هذا الفيلسوف الذي يعلمنا التعامل مع الشر بوصفه أمرا واقعا منتقدا المقاربة الأخلاقية التي تنحو إلى خلق معادلة بين الخير والشر مشددا على مفهوم التنافر الذي يحيل على عدم تناسب الإنسان مع ذاته وهو يقترف فعل / أفعال الشر مبررا إياها بتعليقها على مشجب المتعاليات. مرة أخرى، أعترف أن القصيدة / الديوان مشروع إبداعي عميق ينخرط عمليا في خلخلة مفهوم الشر ومشتقاته ومفاعيله ومفرداته وصيغه اللامتناهية. لكن كيف استطاعت قصيدة الشاعر الدكتور محمد بن ناهض القويز أن تنفتح على جرح فلسفي ضارب بأغواره في الكينونة والوجود لملامسة تلاوينه وتلابيبه شعريا؟! يتقدم نص (شهادة الأرض) مقتحما أرض التاريخ البكر منذ الانفجار العظيم حتى لحظة الكتابة عبر آليتين أو آليتين اثنتين مركزيتين: واحدة شعرية وأخرى عبر - سردية لأنها تستثمر لغة الشعر حتى وإن كانت تتوسل التعبير بأواليات السرد. يتم ذلك الاشتغال المتوازي في ظل إعادة صياغة هذا التاريخ ذاته عبر خلخلة بنياته الزائفة وسردياته التضليلية. فالشاعر محمد بن ناهض القويز لا يمارس قراءة التاريخ بعين المؤرخ بل يعيد تشكيل التاريخ وفق رؤيته الشعرية الخاصة القائمة على إدانة لحظات منسية لكنها مفصلية لتشكيل عالم لا يروي ما وقع بشكل غائي بل ليروي ما جاز أحيانا وقوعه كما هو الشأن مع واقعة عنترة وعبلة التي يصوغها بطريقة تخييلية ترقى إلى (الأسطورة) بشكل عجائبي أخاذ لا علاقة لها بما يرويه لنا مؤرخو الأدب ولا بالصبغ التي تعامل بها المبدعون الآخرون مع سردية عنترة وعبلة. يهز الشاعر محمد بن ناهض القويز بجذوع التاريخ المتحقق كاشفا عن مواطن القبح وشروخه، عن تشققات جدرانه وأوجاعه، عن أوهامه وأضاليله. لقد فكك استعارية الشر من خلال مفهوم الهشاشة الإنسانية التي تؤطر الكينونة والوجود على حد سواء بالمفهوم الذي يقدمه هايدغر للوجود على اعتبار أن اللغة هي مسكنه وبيته (هايدغر، الوجود والزمان1927). يلامس الشاعر هشاشة هذا الشرط الإنساني وجوديا محيلا إيانا على مفهوم عدم العصمة الذي نحته بول ريكور وهو يقارب رمزية الشر بصيغة تأويلية مؤكدا على أن الخطأ (أي الشر) عنصر خارجي عن تركيبة الإنسان وعملية الانتقال من البراءة إلى الشر محفوفة بالأسئلة التي لا تجيبنا عنها سوى المقاربة الأسطورية، وهذا ما مارسه الشاعر وهو يستنطق عملية العبور ويسائلها محاولا تشريح لحظاتها المفصلية عبر محطات التاريخ المختلفة، الشيء الذي يجعل القصيدة مدونة ملحمية عابرة للأزمنة والأمكنة على حد سواء ومنفتحة على الجرح الوجودي بمفهومه الكوني العام. وعلى ضوء فوانيس التاريخ، ترسم لنا القصيدة أفقا شعريا مغايرا للمألوف النصي الذي اعتدناه إبداعيا على مستوى أجهزة التلقي وهي بهذا المعنى مغامرة شعرية في المجاهل تقفت منطق المتواليات الشعرية ذات المستويات النصية المتراكبة (الشعري / العبر - سردي / الدرامي / الحواري.. الخ) دون التنازل عن منسوب الشعرية بمفهومها الجمالي العالي. وهذا لا يتأتى إلا لشاعر يمتلك أدوات فنية ورؤيوية كبيرة ويستند إلى أرضية نظرية وتشكيلية قمينة برسم عوالمه التخييلية (وهذا ما يفسر في منظوري تفاعل الفنان التشكيلي إبراهيم النغيثر مع النص عبر ترجمته الى ثلاث وثلاثين لوحة زيتية). تضم القصيدة / الديوان تسع عشرة متوالية شعرية وللعدد (19) دلالاته السيميائية على المستوى التداولي الديني بحيث أن الله ذكر العدد 19 في كتابه الحكيم وهو يتحدث عن ملائكة العذاب في نار جهنم، يقول تعالى في سورة المدثر، الآية 30: (عليها تسعة عشر). بل حتى البسملة تضم تسعة عشر حرفا، وفي هذا السياق التأويلي قد ينصب تداول الشكل الهندسي مقطعيا ويمكن قراءة مداخله ومقاربتها هيرمينوطيقيا لا سيما أن القصيدة شهادة عن الجحيم الأرضي الذي فتحه الإنسان على مصراعيه منذ الأزل بسبب ميولاته الغريزية نحو الشر ومشتقاته. وما يقوي من الإمكانات التأويلية أكثر تكرار مفردة (الشر) سبع مرات ولا يخفى ما للعدد (7) من حمولة رمزية مقدسة. بصيغة أخرى، تحيل مقصدية هذا العدد على الطابع التقديسي للمدنس (الذي هو الشر طبعا) من لدن الكائن الإنساني عبر التاريخ. من حيث البرنامج السردي الذي ينهض عليه النص نقف أمام سيرورة تاريخية يبدعها النص لمطاردة تاريخية الشر في أبعادها المتباينة عبر مسارات (آدم وحواء، قابيل وهابيل، عنترة وعبلة، مارتن لوثر كنج، منديلا، ظاهرة الإرهاب، زلزال ازمت، البوسنة، كوسوفو، ورندي، الشيشان، هيروشيما، بغداد، روما، النظام العالمي الجديد، مؤسسات الغرب المصرفية والقانونية..) وأستطيع الجزم دون مواربة أن الدكتور الشاعر محمد بن ناهض القويز قدم عملا لافتا لأقبل لي شخصيا بقراءة ما يشبهه. وهذه مجرد إطلالة سريعة على مشروع شعري يمتلك أفقا شعريا وتخييليا ما عهدنا في شعريتنا العربية بمثيله، فهو عابر للتجنيس، متجاوز للتصنيف، عصي على القبض والترويض. وهذا شأن الأعمال الإبداعية الرفيعة في تاريخ الشعر مما يجعلني أضم صوتي إلى ما قاله صاحب السمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله - في حق هذا المشروع الشعري النوعي: (قصيدة عجيبة لم أسمع بمثلها لا في القديم ولا الحديث ولا المترجم. هذه القصيدة لا بد أن تحول إلى عمل مسرحي أو تلفزيوني)! لقد حاول الشاعر استعراض تلك المحطات لتفكيك مدلولات الشر ومفاعيله والآليات المتحكمة في إنتاجه. يراهن الشاعر محمد بن ناهض القويز على تفكيك المسكوت عنه عبر تعرية الخطابات المؤسساتية في الغرب وهي العملية التي انخرط فيها فلاسفة من قبيل: ميشال فوكو، بيير بورديو، أدورنو وهابرماس وغيرهم؛ ممن تجرؤوا على كشف غابة الأوهام بين الخطاب والممارسة في الغرب الذي يتناقض عمليا مع الشعارات التي بنى عليها مركزيته وترسانته النظرية المدعاة. أكيد أن الشاعر محمد بن ناهض القويز انبرى لمجابهة هذه الإشكاليات الفلسفية من موقع آخر يتقدمه الشعري مسلحا بالعبر - سردي والمشهدي والدرامي والحواري في تآلف استثنائي نادر وغير مسبوق، لقد توكأ شاعرنا على تفعيلة الرمل (فاعلاتن) ذات المنحى الغنائي في التمثل النقدي إلا أنه طوعها لتخدم درامية الحدث الوجودي كما لو أنه أفرغ إيقاعيتها من شحنتها الغنائية ليمنحها شحنة جديدة درامية تكسر أفق التلقي الإيقاعي المتداول. كما أن لغة النص جد غنية بمستويات بوليفونية، تبني الدهشة، وتؤسس لغير المتوقع في سياق كيمياء غنية بالتشكيل اللغوي. * شاعر وناقد مغربي د. محمد بن ناهض القويز مصطفى بدوي