وضعت الحرب العالمية الأولى الضمير الغربي أمام العديد من الحقائق الصادمة للأداء الإنساني الرديء، وجاء التعبير عن ذلك بوضوح في أعمال إبداعية مختلفة تعكس كثيرا من خيبات الأمل لدى المبدعين على نسق الأرض (الخراب أو اليباب) أو (أرض الضياع) التي نظمها الإنجليزي – الأميركي توماس ستيرنز إليوت. لم تحظ تلك الأرض الخراب بقبول واستحسان النقّاد والشعراء سواء في أميركا حيث اعتقد شعراؤها الطليعيون أنه تخلى عن محاولة الكتابة عن أميركا المعاصرة، أو من جانب الشعراء الإنجليز التقليديين الذين أكدوا أنه قطع الروابط بين الشعر وجمهور كبير من القراء. بصورة عامة، يبدو أن نقد إليوت وشعره متشابكان لدرجة أنه من الصعب مناقشتهما بشكل منفصل، وهو رغم كل ذلك النقد الواسع لإنتاجه إلا أنه لم يضاهه أي شاعر آخر من القرن العشرين في الطرق التي جذب بها انتباه جمهوره. وبتتبع أدائه وإنتاجه يمكن استخلاص أنه منذ عشرينيات القرن الماضي وما تلاه، كان تأثير إليوت شاعرا وناقدا، في كل من إنجلترا والولايات المتحدة الأميركية، هائلا، ليس أقله بين أولئك الذين أسسوا لدراسة الأدب الإنجليزي كنظام أكاديمي مستقل. يمتعنا كولن ويلسون باختزال حاسم لتلك الأرض الخراب حين نجد إليوت أقامها على أساس العزف على أوتار التناقض بين الخالية من المعنى فتصبح نوعا من الموت وبين الموت في ظل عقيدة ومعنى فيفضي إلى حياة أدبية. والأرض الخراب عصر عقيم مجدب وميكانيكي وكاذب يعيش في مدينته كالجحيم وبحثه عن القوة من خلال المجردات الجوفاء، بحث عبثي فارغ رمز به إليوت إلى القرن العشرين. أحدث إليوت انقلابا ضخما في بنية النص الشعري من خلال أرضه الخراب، ولكن وللمفارقة فهذا العنوان يعود إلى كتاب لجيسي ويستون عن أسطورة الكأس المقدسة "من الشعائر إلى الرومانسية أو "من الطقوس إلى الحكاية"، فيما هناك قصيدة متشابهة بشكل لافت للنظر من حيث الموضوع واللغة تسمى "أرض الخراب"، كتبها الأمريكي ماديسون كاوين، ونشرت عام 1913م، ولإيقاف الإيحاء الكامن في هذه المفارقة أصر إليوت بأدب على أن عنوان قصيدته يتكون من ثلاث كلمات تبدأ ب"ال" التعريف "The". كل تلك الأعمال إنما تشابهت في عكسها لخيبة الأمل والاشمئزاز التي سادت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك ما عبّر عنه الإنجليزي إدوارد مورغان فورستر في عام 1936م، وهو يكتب عن الأرض الخراب "إنها قصيدة رعب. الأرض جرداء، ملح البحر، العاصفة الرعدية اندلعت بعد فوات الأوان. والرعب شديد لدرجة أن الشاعر لديه مانع وغير قادر على التعبير عنه علانية". الصورة في ذلك الوقت كانت غاية المأساوية، إن تصوير الفراغ الروحي واضمحلال مدينة أوربس أترنا "Urbs Aeterna" أو "المدينة الخالدة - المدينة الأبدية"، ومعنيٌّ بها روما على نحو ما، لم تكن تظهر تباينا بسيطا بين الماضي البطولي والحاضر المتدهور، بل هي بالأحرى وعي خالد ومتزامن للعظمة الأخلاقية والشر الأخلاقي. ولذلك عبّر إليوت عن اليأس والارتباك في الغرض من الحياة في تلك المدينة التي اضمحلّت، وكان ذلك بمثابة الموضوع النهائي لأرضه الخراب بكل التحولات الخطابية المستمرة للنص. رغم أن "الأرض الخراب" لم تكن أعظم قصائد إليوت، مع أنها الأشهر، إلا أنها بحداثتها أوجدت نقدا كثيفا لإليوت، بقصد وبغيره، وخلقت أجواء يمكن من خلالها فهم شعره وتقديره بشكل أفضل مما لو كان عليه الظهور في بيئة أدبية تهيمن عليها معايير العصر السابق له. ومن تلك الأجواء برزت عبارات جديدة كان لها تأثيرها في المشهد الأدبي، فقد استخدم إليوت عبارة "ارتباط موضوعي" في سياق نظريته غير الشخصية في الشعر، وتبعا لذلك كان لها تأثير هائل في تصحيح الغموض في الخطاب الفيكتوري المتأخر من خلال الإصرار على تطابق الكلمة والموضوع. أيضا ظهرت العبارة الشهيرة لإيليوت "تفكك الإحساس"، والتي تم اختراعها لشرح التغيير الذي حدث على الشعر الإنجليزي بعد الشعراء الميتافيزيقيين مثل جون دون وأندرو مارفيل. ويبدو أن هذا التغيير يتمثّل في فقدان اتحاد الفكر والشعور. كانت الأرض الخراب رائعة، ومنحت إليوت كل الشهرة ولكنها لم تصل به إلى عتبات نوبل، فقد جاء ذلك من رباعياته الأربعة التي صدرت في كتاب عام 1943م، واستكشف فيها، من خلال صور ذات جمال عظيم، ماضي الجنس البشري، ومعنى التاريخ البشري. وترك ذلك العمل انطباعا عميقا لدى القراء، وحتى أولئك الذين لم يتمكنوا من قبول المعتقدات المسيحية للقصائد أدركوا النزاهة الفكرية التي اتبعها إليوت في موضوعه، وأصالة الشكل الذي ابتكره، والإتقان الفني في قصائده، فكانت ثمرة ذلك جائزة نوبل للآداب في عام 1948م، لتبقى الأرض الخراب هي الأشهر ومعلقة على جيد الزمن الأدبي بكل الخيبات الإنسانية كما فعلت جورنيكا بيكاسو بعدها. توماس إليوت