التحولات التي أفرزتها التقنية التي غيرت من طبيعة النمط المعاش بتوغلها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وخضوع الإنسان لسلطتها وتعقد العلاقة الترابطية معها جعل التخلي عنها بأي حال من الأحوال من المستحيلات بسبب أهميتها القصوى وارتباطها الوثيق بالتطور البشري الحديث المتسارع الذي أنتج الكشوفات التقنية في عالم كوني اتصل بعضه ببعض بسبب التقنية الرقمية. عكسَ على ذلك تقدم هائل ساعد الباحث والمثقف بتسهيل الوصول إلى المصادر المعرفية والتواصل حيالها وفتح نوافذ التفاعل بشكل موسع ما بين المهتمين والمتخصصين بالمعارف ووفر قاعدة معطيات سنحت بتقديم المصادر المرجعية بصيغة رقمية فعالة من خلال أدوات تقنية جاذبة تتضمنها الصورة وأبعادها التأثيرية والوسائط المتعددة أو «الانفوجرافيك» والأفلام والبرامج والشبكات الاجتماعية والمدونات المرئية أو الصوتية وغيرها مما خلق سيولة معرفية جارفة قد تربك الباحث إن لم يملك الامكانات الممكنة لضبط الإيقاع المعرفي واستخدام التفكير الناقد والمراجعة المنهجية. إزاء كل هذا وجدنا أنفسنا أمام نظام تواصلي تقني رقمي يستبعد التواجد الإنساني كحضور فعلي بكل أبعاده إلى كائن يعيش في عالم افتراضي يستخدم الايماءات الصورية «الايموجي» بدل اللغة أو بمعنى آخر «رقمنة» التعبيرات والمشاعر بتهديد صارخ للغة التقليدية من جهة ومن جهة أخرى محكوم بأنماط سلوك شركات التقنية الرقمية الكبرى التي تُخضع فيها مستخدميها لسوق بيع المشاهدات والبيانات علاوة على ذلك الاستكانة لدوامة المعايير التقييمية غير ذات الصلة بالعمل الثقافي والفكري لتغيب فيها القيمة الحقيقية أو تجاهلها وانزوائها في طي الملفات المهملة في عالم الشبكة العنكبوتية. هذه القدرة على احتواء نطاق التواصل بين البشر بمعزل عن الاهتمام بكينونة الإنسان المرتبطة بالتواصل الطبيعي التلقائي جعلت من التواصل الرقمي سلطة مضمرة تؤثر في نمط الحياة وباب خلفي لدخول الهيمنة الفكرية للآخر دون إقناع بل بفرضها بإيهام وتلاعب لتضعَ الإنسان تحت ضغط لا ينقطع فتأتي الصور والأخبار والتغريدات والوسائط والتعليقات.. الخ في لحظة غياب اللغة المشتركة وتجعل الفرد مجرد متلقٍ وتابع وزبون رقمي. هذا المشهد المقلق يُشرع الباب لربط الثقافة بالصناعة الاقتصادية وبالسوق المفتوح وربطها بما يمكن أن يقدمه من فائدة اقتصادية دون اعتبار لأي نشاط ثقافي جاد فالتوسع الحاصل في استخدام التقنية الرقمية التي بدأت تتجه إلى بعض المؤسسات الثقافية بشكل سريع يدعونا أن نسبق أي خطوة من هذه الخطوات بالتأني والتأمل ودراسة للمآلات ومدى تأثيرها اجتماعياً واقتصادياً فالتقنية بشكل عام لها سلبيات وإيجابيات، ويبقى دور الإنسان هو أن يوظف هذه التقنية لما يخدمه دون الانسياق خلفها دون وعي وإدراك فالتقنية الرقمية عاملاً مساعداً في عملية التجديد الثقافي لا عامل أساسياً يُحيد التواصل الإنساني الطبيعي.