أصبح «القياس النفسي» علامة مميزة وفارقة في علم النفس الحديث في اللحظة التي استبدلت فيها التعبيرات الوصفية بتفسيرات كمية، أمكننا من خلالها فهم السلوكيات البشرية بشيء من الدقة والموضوعية، فالقياس في علم النفس يمكن اعتباره بأنه تعبير أو تحديد رقمي للسلوكيات والخصائص والمواقف النفسية المتنوعة كالتنمر والانطوائية والقلق والميول المهنية، وعادة ما يتم تصميم هذه المقاييس ضمن إطر وقواعد معينة من أهمها خصائص الفئة العمرية للمفحوص -الذي سُيطبق عليه المقياس- والمتوائمة مباشرة مع الهدف من هذا المقياس وضمان صدقه وثباته. ومع هذه المسايرة التطورية للقياس النفسي إلا أننا ما زلنا كمتخصصين مهتمين بتصميم المقاييس وتطبيقها نضع أقدامنا في مواضع غير مناسبة، على الرغم من وفرة إمكاناتنا وفيض أدواتنا!. لا شك هناك الكثير من المحاولات الفردية الراقية لبناء وتصميم المقاييس النفسية المختصة بمجموعة كبيرة من السلوكيات المتنوعة داخل أسوار البيئة الأكاديمية، والمنفذة من قبل طلبة الدراسات العليا الباحثين أو الأكاديميين المختصين إلا أن الإلمام بها والوصول إليها أمر صعب ومعقد؛ بالإضافة إلى افتقارنا لوجود دليلٍ موضح ومفسر نضعه نصب أعيننا يختص بالمقاييس النفسية في الوطن العربي عامة والمجتمع السعودي خاصة. وأحد الأسباب المؤثرة أيضًا هو ضعف المهارات التطبيقية للمقاييس، واختصار تدريس الطلبة الجامعيين نظريًا وتدريبهم العملي في مرحلة «البكالوريوس» ضمن مقررين أو ثلاثة فقط تختص بالقياس النفسي بدلاً من اعتبار القياس النفسي تخصصًا ومسارًا مستقلاً، وذلك عن طريق فصله كتخصص أكاديمي يمكن لخريجيه وخريجاته تحمل مسؤولية العمل في مجال تصميم وتطبيق المقاييس فيما بعد. وفي نفس المنعطف، نجد أن الأهم من ذلك كله هو غرابة العديد من هذه المقاييس وبُعدها عن بيئتنا وثقافتنا المجتمعية، إذ أن عددًا كبيرًا من المقاييس المعتمدة لدينا صُممت بالأصل تبعًا لثقافات أخرى أجنبية تختلف عما نحن عليه (ثوبهم غير ثوبنا)، كما أننا بجانب ذلك تعوزنا حداثة هذه المقاييس وتزامنها مع ما وصلنا إليه خاصة في ظل الضخ الرقمي الوفير الذي نشهده، ولن ننسى أيضًا تداخل محتويات هذه المقاييس وركاكة صياغتها وعدم وضوح أدبياتها وأطرها النظرية، فانتفاعنا من «القياس النفسي» يجب ألا يكون قائمًا على حاجتنا العملية والتطبيقية فحسب، بل لا بد لنا من الإحاطة بكل تضاريسه وفهم أسسه النظرية فهمًا وافيًا. ونقطةٌ أخرى كذلك، أن المقاييس النفسية - خاصة التربوية منها -، يعاني فيها كثيرًا من المرشدين المدرسيين والاختصاصيين النفسيين من ندرة توافرها بالرغم من كونها أداة مهمة يمكنها دعم الدور الإرشادي وضمان جودة نتائجه وحذاقته، بالإضافة طبعاً إلى غلاء أسعار تطبيق هذه المقاييس في العيادات والمراكز المختصة رغم الحاجة الماسة إليها في المدارس والمؤسسات التربوية!. ختامًا، لا بد لنا كانطلاقة أولى في التغلب على هذه المعضلات من إنشاء «مركز قياس نفسي» رسمي مُهيأ حسب الظروف المناسبة والملائمة للحاجة، وتستفيد منه جميع قطاعات الدولة وعلى رأسها وزارة التعليم والجامعات والكليات والمعاهد والجهات ذات الصلة؛ يعمل فيه فريق عمل متخصص واحترافي ومؤهل كيف يُعد المقاييس النفسية ويقننها - بكافة أشكالها - وفقًا لطبيعتنا المجتمعية والبيئية الحالية، خاصةً في ظل ظروفنا الراهنة وتطورنا الفذ السريع نحو مواكبة جودة الحياة ووصولاً إلى رؤية 2030. *اختصاصية نفسية مساعدة وباحثة ماجستير في علم النفس التربوي