21- روى ابن سلام بيت الأخطل:» قد كنت أحسِبه قينا وأُنْبَؤُهُ - فاليوم طَيَّرَ عن أثوابه الشَّرَرُ»(2/470). علق محمود شاكر:»طيّرَ الشررُ: ذهب وتفرق، مثل تطاير، ومَن ضبَطها «طُيِّرَ»بالبناء للمجهول فقد أفسد. ولم يذكره أصحاب المعاجم، ولكنه عربي محض». أقول:هذه عجْرفة، فلو سلمنا بأن الرواية الصحيحة هي»طَيَّرَ» لازما فليس في»طُيِّرَ» إفساد لمقصود الشاعر، فكيف وهي الصواب، و»طَيَّرَ» لازما لا تثبت؟! فلا شاهد لهذه اللفظة إلا ما وجده في مخطوطته مضبوطا هكذا، وقد تكرر ذكرُ ضعفها سندا وضبطا. والكلمة مضبوطة بالبناء للمفعول فيما رأيته من المصادر كالأغاني والشعر والشعراء بتحقيق أخيه أحمد وغيرهما. وقلّد عليُ البجاوي محمودا في ضبطه (الموشح213)، وهكذا يسري العبث في نصوص الأدب من محقق إلى آخر، تقليدا من بعضهم لبعض، ثم يقلدهم قراؤهم بَعْد ذلك. وربما تُدخَل في المعاجم بعد ذلك كما حاول هذا أحدُ الأتباع في كتاب سماه «معجم محمود شاكر»، حشد فيه ما رآه إضافات واستدراكات على كتب اللغة، ومنها هذا اللفظ وغيره من الألفاظ التي ذُكِرتْ والتي ستُذكَر في هذه السلسلة. و»طُيِّرَ» بالبناء للمفعول هو الصواب رواية ولغة وبلاغة؛ أما رواية فلما ذُكِر من أنها رواية كتب الأدب، ولضعف المخطوطتين اللتين اعتمد عليهما. وأما لغة فلخلوّ كتب اللغة من»طَيَّرَ»لازما. وأما بلاغة فلو افترضنا ثبوت الفعل اللازم فإن البناء للمفعول هنا أجود؛لأن هذا موضع مدح وتعظيم، وحذف الفاعل يزيد المدح تهويلا، وهذا عام في كل تعظيم وتهويل، كقوله»إذا زُلْزِلتْ الأرض زلزالها» و»حتى إذا فُتِحتْ يأجوج ومأجوج». وهذا المحذوف الذي تسبب في تطيير الشرر عن أثواب الممدوح هو المجد الذي ذَكَرَه في البيت التالي: «إن سِماكًا بنى مَجدًا لأسرته - حتى الممات وفِعْلُ الخيرِ يُبتدرُ»، ففي بناء «طُيِّرَ» إشارة إلى سبب إزالة الشرر وهو المجد الذي بناه الممدوح بفعله، خلافًا لطَيَّرَ لازمًا - لو ثبتْ - فليس في بنائه ما يتضمن هذا المعنى، ومن هنا يتبين مبلغ صاحب «التذوق» المزعوم من ذوق العربية ! 22- وحكى قول الأخطل للوليد بن عبدالملك حين استعان عليه بجرير: «أَعَلَيَّ تُعَصِّبُ يا أمير المؤمنين؟! وعليَّ تُعِين؟! ..» (2/477). فعلق شاكر :»أعليّ تُعصِّب مِن العَصبِيَّة، وهي أنه يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين. عصب عليه: ألب عليه ودعا إلى مناوأته، وهذا مما أخلت به المعاجم». أقول: أولًا ضبْط المخطوطة ليس بحجة، فيحتمل أن يكون خطأ والصواب: «تَعْصِب» مخفَّفًا، يقال: عَصَبُوا به أي اجتمعوا، ويحتمل أن يكون: «تَعَصَّبُ» بحذف التاء تخفيفا أي تَتَعَصَّبُ، ومثل هذا الحذف كثير معروف. ثانيا:لا يصح الاعتماد على ألفاظ الأخبار والمحاورات المنقولة في كتب الأدب، فليست كشواهد الشعر والنثر المروية والمحفوظة للاحتجاج، إذْ لم تَتَوجّه لها عناية العلماء نقلا وضبطا كما تَوجّهت عنايتهم لشواهد العربية، هذا إلى ما في المخطوطتين من ضعف. ثالثا: لو صح الضبط فيحتمل أن يكون من لغة العامّة المعتادة في مثل هذه المجالس، فضُبِطت كما تُنطَق على ألسنة العامة. رابعا:ورد في المعاجم:»عَصَّبَ» مضعّفًا متعديا، يقال: عصَّبوه، أي أحاطوا به وأيّدوه وسَوّدوه، فتَعَصَّبَ هو، فإن أراد المحققُ الفعلَ المتعدي فقد ذكره اللغويون، وإن أراد فعلا لازما يستدركه على كتب اللغة الفصيحة فقد أخطأ. 23- وروى بيت القطامي:»ولكنّ الأديمَ إذا تَفَرَّى - بِلًى وتَعَيُّنًا غَلَبَ الصَّناعا»(2/539)، فعلق شاكر:»في ديوانه عن التوّزي قال:الرواية «ولكنّ الّلدِيم». قال وهو أول ما يدبغ أديم، فإذا رُد في الدباغ مرة أخرى فهو لديم. وهذا نص ليس في كتب العربية، واللديم فيها هو المرقع المستصلح، ثوب أو خُفّ لَدِيم ومُلدم:مرقع». أقول: هذا الكلام المنسوب للتوزي هو في ديوانه (39، ط بريل 1902)، لكن المثبت في الشعر في طبعة بريل وطبعة السامرائي ومطلوب(34): «الأديم». ولم أجد التفريق المذكور بين الأديم واللديم، فإن صحت رواية «الَّلدِيم» فينبغي أن تُفسر بما هو معروف وهو الثوب الخَلَق أو المرقع، ولا يصح قبول هذا التفريق المنسوب للتوزي واستدراكه على اللغة - كما فعل المحقق - إلا بدليل. وقد تكون «اللديم» هنا -إن صحت الرواية- مخففة من «الأديم»، كما خُفِّفتْ «الناس»من»الأُناس» (انظر قول سيبويه وأبي الهيثم في تخفيف الناس في لسان العرب)، وذلك بطرح همزة الأديم وتشديد اللام عوضًا منها. وقد تكون «اللديم» مبدلة من «الرديم» وهو الثوب الخَلَق أيضا، من الرَدْم وهو هنا رقع الثوب وتلفيقه بغيره، والإبدال بين اللام والراء كثير. وعلى كلٍ فالتفريق المنسوب للتوزي لا دليل عليه، ولم يذكره أحد من علماء اللغة فيما رأيت، وكان الواجب على المحقق التثبت من هذا، ولكنه هوى الإغراب، والإغراب غلّاب! * أستاذ اللسانيات في جامعة الطائف د. خالد الغامدي