يقول الإمام الشافعي: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساوئ أي عندما نكون راضين مسبقاً عن أحدهم سننحاز لرؤية محاسنه ومزاياه وعلى العكس إذا كنا ساخطين عليه سنميل لرؤية مساوئه ونغفل عن المحاسن. إن أمثلة الانحياز في حياتنا كثيرة وخفية، وقد تكون آثارها كبيرة ومصيرية دون أن ندرك. فعندما يوضع صانع القرار في بيئة العمل أمام عدة خيارات ويميل لاختيار واحد منها لانحياز داخلي أو مصلحة شخصية، من يستطيع اكتشاف ذلك؟ لا أحد.. حتى صاحب القرار نفسه ربما تؤثر عليه هذه العوامل دون وعي كامل منه. ولذلك عند مراجعة الأبحاث العلمية، يعمد المحكمون عادة إلى سؤال الباحث عن إذا ما تم تطبيق مبدأ الإخفاء أو التعمية عند قراءة نتائج التجربة، لأن الانحياز بشتى أنواعه يعد من أهم العوامل المؤثرة على قوة الدراسة. أذكر عندما كنت في مرحلة الامتياز، كنت أقرأ كتابا بعنوان "التفكير النقدي - Critical Thinking" وكان يتحدث في أحد أجزائه عن أثر البلاغة في الكتابة العلمية، وذكر أنه من المثير للاهتمام أن يكون لها أحياناً تأثير عكسي أو سلبي، حيث يستطيع الباحث بطريقة إقناعه وتعبيره أن يوهم القارئ بصحة النتائج، لذا كان على القارئ أن يكون حذراً وعلى دراية كافية بالمادة العلمية. كما أن أسلوب الكتابة الجيد يعطي غالبا انطباعا أن الدراسة قوية ومحكمة أكثر من دراسة أخرى أسلوبها أقل جودة، وهذا ليس بالضرورة صحيحاً. ولم تكن تلك دعوة من المؤلف لعدم الاهتمام بأسلوب الكتابة، لكنها كانت دعوة لمحكمي الأبحاث أن يضعوا ذلك في الحسبان. وأعتقد أن كثيرا مما ورد في ذلك الكتاب ينطبق أيضا على حياتنا العامة، فقبل فترة زارت إحدى قريباتي طبيبا في عيادة خاصة وعرض عليها عدة خيارات للعلاج ونصحها بالخيار الأقل تكلفة. بعد العلاج مازالت الأعراض مستمرة فذهبت إلى طبيب آخر ونصحها بخيار علاجي آخر (أعلى تكلفة) والذي تبين لاحقاً أنه الأنسب لها. في البداية انحازت قريبتي لخيار الطبيب الأول واعتقدت أنه الصحيح حيث بدا لها أن عدم اهتمام الطبيب بالتكلفة دليل على مصداقيته وعدم انحيازه، ولم تكن تدرك أن هذا الظن منها هو انحياز بحد ذاته. إن وعينا بتأثير مصادر الانحياز الخارجية على اختياراتنا وقراراتنا يدفعنا إلى التنبه بها ومحاولة الحد من تأثيرها، وذلك لنتمكن من اتخاذ القرارات الصائبة. فمثلا، عند تقييم الاختبارات العملية في الجامعة أحاول أن أقيم العمل قبل قراءة اسم الطالبة حتى لا تؤثر معرفتي السابقة بها وبأدائها على التقييم الحالي. فنحن لنتمكن من اتخاذ القرارات الصحيحة، لا نريد أن نرى بعين الرضا ولا عين السخط التي ذكرها الشافعي، فكلتاهما منحازة ورؤيتها مشوهة، بل نريد أن نرى الأمور كما هي على واقعها بعين الحقيقة.