تبدو أميركا الأخرى حالمة وأكثر شاعرية، فهي ليست بلادا رأسمالية تفتقر ذلك الحس الروحي الشفيف، وإنما لديها طاقة وطلاقة أدبية مذهلة تعادل النزعة الرأسمالية في السلوك الإنساني العام لمواطنيها. وبغض النظر عن الذين هاجروا إليها باكرا ومنحوها ثراء واتساعا أدبيا وإبداعيا، إلا أن من نشؤوا فيها عكسوا جوهرا رقيقا وراقيا للطبيعة البشرية المتصالحة مع نفسها، وأكثر ما بدا ذلك في منظوم ومنثور أدبائها. ولعل تجربة الشاعر الكبير والت ويتمان تمثّل جزءا من بانوراما الروح الأميركية التي لا تفتأ أن تقدم نفسها بصورة فارقة وجديرة بأن يحدث معها تحوّل ما، أو استكشاف مسار إبداعي جديد بطريقة ما، وكعادة كثير من المنقلبين على السائد تعرض لانتقادات مريعة وهو يقدم باكورة إنتاجه إلى الحد الذي وصفته فيه صحيفة (لندن كرتيك) بأنه لا يفهم بأصول الفن أكثر مما يفهم خنزير في علم الرياضيات. في زاوية قصيّة من الرؤية في جسد النص الشعري الأميركي يمكن أن نجد تماسا مع ما يشير إلى أن الشاعر يرفض نفسه بشكل ما، إنه ليس مهتما بنفسه ولا هو شغوف بشخصيته أو الوسائل التي تؤدي إلى زيادة عظمتها وقوتها، إنه جدير بأن يفضّل لو يصبح نقيا وواضحا مثل الماء العذب القراح، وذلك ما جعل ويتمان يمضي ويجعل نصه مدهشا إلى أن نلتقي أخيرا بتلك الرائعة الأخرى التي فازت بنوبل للآداب لهذا العام وهي الشاعرة لويز غلوك. غلوك من أولئك الشعراء العباقرة الذين تصبح كلماتهم التي تبقى خارج القصيدة مخيفة كما قال الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس. ذلك الخوف الكامن في كلماتها ربما مصدره الكثافة التراجيدية فيما تنتجه، وقد صنّفت صحيفة «نيويورك تايمز» مجموعتها الشعرية «أرارات» بأنها أكثر كتاب ممتلئ بالحزن والقسوة في الشعر الأميركي المنشور خلال ربع قرن. حصول غلوك على جائزة نوبل متوّج ببيان أشار إلى أن «في قصائدها، تستمع النفس لما تبقى من أحلامها وأوهامها، ولا يمكن أن يكون هناك من هو أشد منها في مواجهة أوهام الذات». ولعلّ الصراع والقلق أسهما كثيرا في وضع مفردتها الشعرية في فضاء مختلف، فهي لم تغادر مترادفات الصراع والألم والمعاناة في غالب إنتاجها، وقد تميّزت كتبها المبكرة بشخصيات تتصارع مع تداعيات علاقات الحب الفاشلة، واللقاءات العائلية الكارثية، واليأس الوجودي، فيما استمر إنتاجها اللاحق في استكشاف معاناة الذات. واللافت في تجربة غلوك الشعرية أنه مطلوب أن تقرأ قصيدتها كحقيقة كاملة ضمن شروطها الخاصة، واحترام لغتها المباشرة المخادعة، وذلك بالضبط ما منح قصائدها وزنا بعيدا عن العامية. وهي لم تمر بما مر به ويتمان الذي اصطدم بواقع مختلف تماما، فيما وجدت غلوك طريقها على نحو أفضل مع نشر قصائدها في العام 1962م ووجدت استحسانا كبيرا. ويمكن في نصها «بورتريه» استكشاف كثير من الجوانب الإبداعية في حزنها وكلماتها: ترسم طفلة إطار الجسد ترسم ما تجيده، الإطار الخارجي فحسب، أما الباقي فيملأه البياض لا تستطيع الطفلة ملء ما تعلم أنه كائن هناك تدرك أمها: داخل خطوط الإطار الهشة ليس من حياة لقد فصلت بين الاثنين وكطفلة تلتفت الآن إلى أمها وها أنت ترسمين القلب في الفراغ الذى صنعته لم تكن نوبل جائزها الوحيدة فقد حصدت قبلها أبرز جوائز الشعر والإبداع في الولاياتالمتحدة الأميركية، ولكن قبل أن تتسلم جائزة نوبل تخبرنا في مقال لها بعنوان (تعليم الشاعر): «إن الخبرة الأساسية للكاتب هي العجز»، وهي جملة عميقة تتوافق مع اتجاهاتها الشعرية التي رغم تميّزها الهائل، وذكاء نصها النابض بالحياة وجماله، إلا أنه لم يتوقف أبدا عن إثراء أيّ ذائقة أدبية.